سد النهضة.. من الخط الأحمر إلى السجاد الأحمر

في خطوة جديدة وتطور جديد، أعلن رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد بكل فخر أن مشروع سد النهضة قد اكتمل أخيرًا، وأن البلاد تستعد لتنظيم حفل ضخم في شهر سبتمبر المقبل إيذانًا بإسدال الستار على ملحمة هندسية امتدت لسنوات.
وبحسب التصريحات الرسمية، فقد وُجّهت الدعوة لعدد من القادة والزعماء، على رأسهم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، لحضور هذه المناسبة التاريخية التي تُعد بمثابة شهادة ميلاد جديدة للطموح الإفريقي، وما علمناه أن الرئيس السيسي سيذهب بنفسه إلى ” فرج ” سد النهضة، لأنه من المعروف للجميع أن الرئيس السيسي لا يرد الدعوة ولا يُحرج الغريب.

وبينما تنهمك إثيوبيا في تجهيز منصات الاحتفال، وتعلو الأناشيد الوطنية وسط الأضواء الكاشفة وفرق الفولكلور، يبقى المواطن المصري حائرًا أمام المشهد، يتساءل في صمت: هل نذهب للاحتفال ببناء السد أم نكتفي بمتابعة الحفل من على ضفاف بحيرة ناصر، حيث انخفض المنسوب؟
لقد آن الأوان أن ننظر للموضوع بعين العقل لا بعين الانفعال والشعارات، فالحفل الذي تستعد له أديس أبابا ليس مجرد مناسبة بروتوكولية، بل فرصة للتأمل في مشروع نُفِّذ على ضوء الشمس، وتحت أعين القيادة السياسية حفظها الله.
من الخط أحمر إلى السجاد الأحمر
عندما أعلنت الحكومة الإثيوبية رسميًا الانتهاء الكامل من مشروع سد النهضة، لم يكن مفاجئًا أن تُقرن هذا الإعلان بدعوة عدد من قادة الدول الإفريقية لحضور الاحتفال، وفي مقدمتهم الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، الدعوة التي بدت للبعض مفاجئة، كانت في نظر كثير من المراقبين تتويجًا طبيعيًا لعشر سنوات من “الإدارة الحكيمة” للأزمة من الجانب المصري، وهي إدارة أثبتت أن الصبر ليس فضيلة فحسب، بل سياسة.
وبينما تحلل البرامج السياسية المصرية الحدث بمنتهى “الموضوعية”، لم يتردد أحد المذيعين في القول:
“دعوة السيسي لحفل السد هي أكبر دليل على أن إثيوبيا تحترم مصر، وبتشكرها على حسن التعامل، ده تكريم دبلوماسي يا جماعة مش استهزاء!”
أما في الشارع المصري، فقد انقسم الرأي:
– فريق يرى أن الذهاب للحفل اعتراف بالأمر الواقع
– وفريق شايف إن عدم الذهاب ممكن يتفهم على إنه “زعل طفولي”، ومصر أكبر من كده
واللافت في الأمر أن الدعوة جاءت بعد سنوات من التصريحات الرسمية اللي كانت بتقول إن مصر لن تسمح بأي مساس بحصتها من المياه، وإن الأمن المائي خط أحمر لا يمكن تجاوزه.
لكن مع انتهاء الملء الرابع، ثم الخامس، ثم دخول السد الخدمة بشكل كامل، تبيّن أن الخط الأحمر كان خط شبرا – بنها تقريبًا أو كما قال أحد المعارضين للنظام المصري!
وزير الرأي المصري لم يكتفي بالمشاهدة فكان له هذا التصريح:
الدعوة تُعبّر عن روح جديدة في العلاقات الإفريقية، روح تتجاوز الخلافات، وتحتفل بالمنجزات، حتى لو جاءت على حساب طرف من الأطراف، فبدل ما نقول إننا خسرنا الجولة، الأفضل نعتبر نفسنا حضرنا الحفل، وشارَكنا في “قص الشريط”.

مصادر دبلوماسية قريبة من الملف قالت إن مصر لم ترفض دعوة آبي أحمد لكنها أيضًا لم تؤكد الحضور، وفي لغة السياسة، ده اسمه “نُبل التحفّظ” وهي مهارة مصرية خالصة، بتجمع بين الكبرياء والبلا موقف.
سد النهضة VS الاستقرار
في ظل الإعلان الإثيوبي الأخير عن اكتمال بناء سد النهضة، وبدء التشغيل الكامل للسد، بدأت موجة جديدة من الأصوات الرسمية والإعلامية في مصر تؤكد على معادلة جديدة: “المياه مش كل حاجة.. الأهم الاستقرار”
وهي معادلة، وإن بدت صعبة الهضم مبدئيًا، إلا أنها بتعكس بصدق روح المرحلة، مرحلة ما بعد الفعل، وما بعد الخط الأحمر، وما بعد كل تصريحات السيادة المائية.
في برنامجه، ظهر الإعلامي أحمد موسى قائلًا:
“اللي بيبص للمية بس، مش فاهم الجغرافيا السياسية الدولة عندها أولويات، والأولوية دلوقتي هي الحفاظ على السلم الإقليمي!”
وفي كلمة له في برنامجه بالورقة والقلم قال الإعلامي نشأت الديهي:
“يا جماعة، المياه بتتفلتر وتتكرر لكن السلام مش بيتكرر بسهولة، كفاية علينا إننا نجحنا في تجنب صدام إقليمي كانت هتدفع تمنه أجيال.”
بل وذهب أحدهم إلى القول إن اللي بيطالب باتخاذ موقف حازم تجاه السد هو “إنسان مش وطني”، لأنه مش فاهم حجم التحديات اللي بتواجهها الدولة، وإنه “لو كل مواطن شرب كوباية مية زيادة، ممكن البلد تخش حرب!”
(فيما يبدو أن شرب المياه أصبح سلوكًا سياسيًا مريبًا في بعض الحالات.)
السيسي وسياسة الصمت العقابي
في الوقت الذي كانت فيه إثيوبيا تعلن رسمياً انتهاء أعمال سد النهضة وتحدد شهر سبتمبر موعدًا لحفل الافتتاح الكبير، وتوجّه الدعوات لرؤساء الدول – بما فيهم الرئيس عبد الفتاح السيسي – لم يحرك الجانب المصري ساكنًا، لا بيان رسمي، لا توضيح، لا تهديد، لا وعد ولا وعيد، فقط… صمت تام.
لكن، ولأننا في دولة تعرف جيدًا ما تفعل، فلا يجب أبدًا أن نعتبر هذا الصمت دليل ضعف أو ارتباك. بالعكس، إنه صمت مدروس، محسوب، ومركّب، ينتمي إلى ما يُعرف سياسيًا بـ”سياسة الصمت العقابي”.
الصمت العقابي هو أن لا ترد.. أن تنظر في الاتجاه المعاكس لأن الالتفات في حد ذاته اعتراف، أن تصمت، فتجعل الخصم يتساءل ألف مرة:
“هل هم فعلاً مش مهتمين؟ ولا بيحضّروا لحاجة تقلب الطاولة؟”
“هل إحنا انتصرنا؟ ولا ده فخ نفسي مصري متقن؟”
أحد المحللين المقربين من دوائر القرار كتب منشورًا قال فيه:
“إثيوبيا تبني ونحن نرتقي، هم يحتفلون بالماء ونحن نحفظ هيبة القرار.”
وفي أحد البرامج الحوارية، علّق الإعلامي محمد الباز وقال:
“السيسي مش لازم يرد لأن حجمه أكبر من الرد، ده مش سكوت، دي قُدرة على الامتناع، وده في حد ذاته عقوبة للطرف الآخر اللي كان مستني اهتمام!”
وهكذا تحوّلت استراتيجية التجاهل إلى مدرسة سياسية كاملة، تؤمن أن التعامل مع الاستفزاز لا يكون بالضجيج، بل بالترفع وأن الموقف الوطني لا يُقاس بحدة البيان، بل ببرودة الصمت.
ولعل أقوى ما في هذه السياسة، هو أنها تترك المواطن حائرًا، متأملًا، متوترًا أحيانًا، لكنه في النهاية مؤمن أن الدولة عندها خطة حتى لو مش معلنة.
وهذا الإيمان، في حد ذاته، هو أساس الاستقرار الوطني في الجمهورية الجديدة.