استطلاع رأي: بتحب الصيف ولا الشتا؟ بحب اللحمة!

ذفي محاولة لفهم ميول المواطنين الموسمية وتفضيلاتهم المناخية، أطلقت وحدة استطلاعات الرأي في الجمهورية الجديدة سؤالاً بسيطًا ظاهريًا، عميقًا في جوهره: “بتحب فصل الصيف أم الشتاء؟”. السؤال، الذي كان من المفترض أن يفتح الباب لنقاش حول التكييفات والمراوح من جهة، أو البطاطين والسخانات من جهة أخرى، اتخذ منعطفًا دراميًّا غير متوقع، حين اتفق معظم المواطنين على تجاهل السؤال الأصلي تمامًا، وأصرّوا على التحدث عن اللحمة وذكرياتهم معها.
“الصراحة أنا بحب اللحمة”، أجاب أحد المشاركين بنبرة لا تخلو من مرارة. بينما أوضحت مواطنة أخرى أن درجة الحرارة، مهما بلغت، لا تُقارن بحرارة الأسعار في محلات الجزارة. وأضافت: “يعني لو معايا كيلو لحمة، أقدر أطبّق عليه 3 فصول في عز الأسبوع”. ومن بين عشرات الإجابات، لم نرصد حالة واحدة اهتمت فعليًا بالفصول الأربعة، باستثناء رجل مسن أشار إلى أنه لا يشعر بأي فصل منذ 2016 بسبب سوء التغذية.
السؤال الشائك الذي كان مُعدًا له أن يُنشر في قسم استطلاعات الرأي، انتقل إلى صدر الموقع الرئيسي بعد أن تحوّل إلى مؤشر اقتصادي واجتماعي خطير. وبدا واضحًا أن العلاقة بين المصريين والفصول لم تعد قائمة على درجات الحرارة، بل على درجات الاستهلاك والسعرات الحرارية.
صيف بلا عصير.. شتاء بلا شوربة
في الظروف الطبيعية، قد يكون الحديث عن تفضيل الصيف أو الشتاء مسألة ذوق شخصي، تتعلق بدرجات الحرارة، الملابس، أو حتى الحالة المزاجية. لكن في مصر الجديدة، لم يعد هذا النقاش بريئًا أو بسيطًا. فالصيف لم يعد مرتبطًا بالرحلات والمصايف بقدر ما صار مرادفًا لضيق التنفس، ارتفاع فواتير الكهرباء، وتراكم روائح الشوارع التي تزداد احتقانًا كلما زاد الحر، وقلّ التبريد. أما الشتاء، فقد فقد هو الآخر طابعه الرومانسي، وأصبح موسمًا رسميًا للاكتئاب الجماعي، حيث يتدثّر المواطنون ببطاطين ورقية ويتدفّؤون على شاشات التلفاز التي تعرض لهم صور “الدفا في بلاد بره”.

“يعني إيه أفضل الصيف ولا الشتا؟ أنا حاليًا بفضّل اليوم الوحيد اللي في الشهر بنطبّخ فيه لحمة”، قالت سيدة أربعينية من شبرا وهي تحمل كيس عدس في طابور التموين. بينما أشار شاب في أوائل الثلاثينات إلى أنه أصبح يربط الفصول بمحتويات المائدة: “الصيف دا كان زمان لما كنت أشرب عصير مانجا، دلوقتي الصيف يعني مية سخنة على الريق”، وأضاف: “والشتا من غير شوربة لحمة ولا حتى شوية لسان عصفور؟ والنبي دا اسمه كلام؟”.
المفارقة أن حتى النقاش حول الفصول بات مرهونًا بمدى توافر اللحمة؛ فالصيف الحقيقي كما يراه البعض هو يوم تقف فيه أمام شواية، تمسك سيخ كفتة وتتلقى نسمات العرق برضا، لا مروحة. والشتاء الحقيقي هو حين تمتلئ الشوربة بقطع لحمة مشبعة، لا بعدس مجفف. وهكذا، لم يعد الاختيار بين الصيف والشتاء مسألة مناخية بقدر ما هو اقتصادية؛ فالأغنياء فقط هم من يملكون رفاهية الحيرة بين تكييف أو بطانية، بينما يعاني المواطن العادي من “تجمُّع المواسم عليه” دون أن يشعر بأي فرق سوى في فاتورة الغاز.
النتيجة أن المصري أصبح يشعر أن العام كله موسم واحد: موسم التقشّف، لا شتاء يُؤكل فيه فتة، ولا صيف تُشوى فيه لحمة وبينما لا تزال الحكومة تتحدّث عن نسب الرطوبة، يتساءل المواطن عن نسب البروتين، وكمية السعرات الحرارية في اليوم، وهل العدس كفاية لسدّ فجوة الشتا؟
ليس باللحمة وحدها يحيا الإنسان
عقب تفاعل المواطنين المفاجئ مع السؤال البسيط، وخروجهم الجماعي عن نص الفصول إلى نصوص الشكاوى الغذائية، علّق رئيس الوزراء الدكتور مصطفى مدبولي خلال مؤتمر صحفي قائلًا: “يجب أن ندرك أن اللحمة ليست هدفًا بحد ذاتها، بل وسيلة ضمن منظومة غذائية متكاملة تسعى الحكومة إلى ضبطها وفقًا لأفضل المعايير الصحية العالمية”. وأضاف، بنبرة بدت للوهلة الأولى علمية لكن بدت للغالبية ساخرة، أنه “ليس باللحم وحده يحيا الإنسان”، في إشارة إلى ضرورة تنويع مصادر البروتين، والاعتماد على سبل أخرى أكثر استدامة مثل البقوليات والعدس والفول.
وأكد مدبولي أن الدولة لا تقيس رفاهية المواطن بعدد الكيلوات التي يستهلكها من اللحمة، بل بمدى وعيه الغذائي والتزامه بالإرشادات الصحية، مشيرًا إلى أن “الحكومة لن تنجر وراء ثقافة الاستهلاك المفرط”، على حد قوله. وقد تداولت صفحات موالية هذا التصريح على أنه يحمل أبعادًا فلسفية تعكس “رؤية غذائية جديدة للجمهورية”، فيما ردت عليها تعليقات المواطنين بتساؤلات واقعية من نوعية: “هو فين أصلاً اللحمة اللي نستهلكها يا جدعان؟”.
من جانبها، دخلت وسائل الإعلام الوطنية على الخط كعادتها، حيث أطلقت إحدى القنوات تقريرًا بعنوان “اللحمة: مخاطرها أكثر من فوائدها”، استضافت فيه خبير تغذية تحدث بإسهاب عن العلاقة بين الإفراط في تناول اللحوم الحمراء وارتفاع معدلات الكوليسترول والضغط وتدهور الصحة العامة، مطالبًا المواطنين بالاعتدال والحكمة في اختياراتهم الغذائية، وكأن المواطن يختار يوميًّا بين شرائح الأنتركوت والبريسكت.
التقرير، الذي بدا أنه موجّه لجمهور من سكان سويسرا أو النرويج، لم ينجُ من موجة سخرية واسعة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حيث تساءل أحد المعلقين: “إفراط إيه؟ دا احنا بنشمها بس من بره الكيس وبنكتب عنها قصايد شعر”.
الجدير بالذكر أن هذه ليست المرة الأولى التي تتصدر فيها اللحمة المشهد الإعلامي، فقد سبق أن أعلنت الحكومة في وقت سابق عن مبادرة وطنية تهدف إلى تحقيق “العدالة البروتينية”، من خلال تخصيص 340 جرامًا فقط من اللحوم سنويًا لكل مواطن. المبادرة، التي وُصفت في حينها بأنها نقلة نوعية في هندسة الاستهلاك الغذائي، لم تُقدَّم باعتبارها مؤشرًا على الفقر أو العجز، بل على العكس، جرى الترويج لها باعتبارها خطوة نحو ترشيد الرفاهية، وفلسفة غذائية جديدة تُعلِي من قيم الانضباط وكبح الشهوة. حيث أكدت التصريحات الرسمية أن اللحم لم يعد يُنظر إليه كسلعة استهلاكية متاحة، بل كرمز وطني يُقدَّر بقدْر ما نفتقده، وأن امتلاك المواطن لنص كفتة أو ربع وريشة في العام هو تجلٍ صريح لفضيلة القناعة.
برجر الفول والعدس
من جانبها، دخلت وزارة التموين على الخط، واقترحت حلولا بديلة عن اللحمة، ليس فقط لتخفيف الضغط على الجنيه المصري، بل أيضًا لتوسيع آفاق المواطن الغذائية. من بين هذه المقترحات: الاعتماد على العدس كمصدر أساسي للبروتين، وتشجيع تربية الأرانب فوق الأسطح، ودراسة إمكانية إنتاج “برجر فول” كمبادرة وطنية.
غير أن ردود فعل المواطنين كانت حادة. فقد أبدى أحدهم استياءه من اقتراح “برجر العدس”، معتبرًا أن “من اعتاد على الكفتة، لا يُعالج بالفول”، فيما اقترحت سيدة من شبرا أن “يتم توزيع اللحمة على هيئة روائح خلال الأعياد، كي يشعر المواطن بالعيد ولو من باب الذكرى”.
من جانب آخر، تداولت صفحات غير رسمية خبراً مفاده أن إحدى شركات الأبحاث بالتعاون مع وزارة التموين بصدد تطوير ما يُعرف بـ”اللحمة الافتراضية”، وهي وجبة رقمية يحصل عليها المواطن من خلال نظارة الواقع الافتراضي، ويعيش بها لحظات الأكل، دون أن يأكل فعليًا، في تجربة وصفها الخبراء بأنها “المرحلة الروحانية من العلاقة بين المواطن واللحمة”.
الإعلام يُحذر: اللحمة خطر على الأمن القومي
وفي تغطية إعلامية شاملة استمرت حتى ساعات متأخرة من الليل، خصصت معظم البرامج المسائية فقرات مطوّلة لتحليل ما أسمته بعض القنوات “ظاهرة التعلق باللحمة”، والتي وُصفت بأنها “حالة نفسية جماعية تعكس الحنين الاقتصادي غير المنضبط”، وتحمل بحسب بعض الخبراء ملامح الانفصال عن الواقع الجديد الذي تسعى الدولة إلى ترسيخه.
وحذّر أحد الإعلاميين المعروفين بتطبيلهم المبتكر والهادف من “التفكير المفرط في اللحمة”، معتبرًا أنها “بوابة خطيرة للتطرّف الاستهلاكي”، حيث يتحول المواطن من مستهلك عاقل إلى كائن غريزي يلهث وراء الريش والكباب، بدلًا من الالتزام بالتوازن الغذائي الذي تتبناه الدولة.
وتابع البوق الإعلامي لؤي الخطير: “أنا مش فاهم إيه الهوس باللحمة! الطب مش قال كفاية بروتين؟ الدولة بتوفر فول، طعمية، بطاطس محمرة سخنة طول الوقت… ما كفاية جشع بقى يا ناس! هو كل حاجة لحمة لحمة؟؟؟”، ثم استدرك بنبرة حادة: “اللي بيحب بلده فعلاً، يلتزم بالخريطة الغذائية الوطنية، ومايعملش فتنة عشان شوية لحمة.. عيب”.
وكمحاولة لتأطير الموضوع دينيًا وصحيًا، أصدرت وزارتا الصحة والأوقاف بيانًا مشتركًا أكدا فيه أن “اللحمة ليست من أركان الوطنية، ولا تُعدّ مقياسًا للولاء أو للانتماء”، وأن “الإصرار على تناول اللحوم الحمراء بشكل مستمر يعكس خللًا في تقدير الرؤية التنموية الشاملة للدولة، والتي تقوم على فلسفة غذائية تعتمد على الحبة والنواة، لا على العجل والنعجة”. وأضاف البيان أن المواطن الصالح لا يُقاس بعدد الكيلوات التي يستهلكها سنويًا من اللحمة، بل بعدد المرات التي صبر فيها على البلاء واستعوض ربنا وواصل الاحتساب.
التغطية لم تقتصر على الجانب الصحي والديني فقط، بل امتدت لتشمل تقارير ميدانية تبرز نماذج مواطنين “ناجحين” في مقاطعة اللحوم منذ أكثر من خمس سنوات، وتم تقديمهم كقدوة غذائية يُحتذى بها، مع التركيز على معدلات الكوليسترول “المثالية” لديهم، بالرغم من أن الكاميرا التقطت أحدهم لاحقًا وهو يشم سيخ كفتة في أحد شوارع إمبابة.