أخوي عمرو أديب.. خف علينا الله يباركلك

عمرو أديب

الأستاذ عمرو أديب، تحية طيبة وبعد،
بلغني كما بلغ الملايين نبأ خروجكم في إجازة سنوية لمدة شهر ونصف اللهم بارك، تقضونها، كما اعتدتم في ربوع الساحل الشمالي، تلك الأرض الموعودة التي لا تطؤها أقدامنا إلا عبر منشورات “الإنفلونسرز”، أو حين تقذفنا إليها بوستات “انستجرام أو يوتيوب” خلسة، فنرى كيف يحيا الذين لا يعانون من التضخم.

ولا أخفي عليكم أنني شعرت بشيء من الغصة، لا حسدًا، حاشا لله، بل نوع من الحنين الغريب، الحنين لأيام لم نعشها. فبينما أنتم تتهيؤون لمغادرة العاصمة، حيث ضجيج الاستوديوهات وضوء الكاميرات، نجد نحن الكادحون من أبناء الشعب أنفسنا في مفاوضات عائلية معقدة من أجل اقتناص إجازة “ثلاثة أيام بلياليهم”، علّنا نظفر برؤية البحر من وراء سور أحد الشاليهات المؤجرة “بالمشاركة”.

لا أظنكم تعانون من صدمة أسعار “بوكس” الشاي على البحر لا سمح الله،  ولا من هاجس إيجار الشقة “من غير فواتير ولا تأمين”. لا تخرجون أنتم صباحًا لتفتشوا عن “كافيه فيه مروحة وسعره مش حراق”، ولا تكتشفون أن كيلو البطيخ أصبح بشيء وشويات، وأن الزبادي الذي كان في الماضي رفيق المصيف قد دخل قائمة “الكماليات”.

عمرو أديب

ولا أظنكم، كذلك، استيقظتم ذات صباح لتكتشفوا أن علبة السجائر هوب زادت خمسة جنيهات دفعة واحدة، بلا سابق إنذار، ولا حتى بيان حكومي يبرر القرار باسم “الصحة العامة” أو “الموازنة العامة”. نحن فقط نقرأ الرقم الجديد على كشك الجرائد، ونتنهد ثم نشتريها ونولعها وعقلنا يتمنى لو يولع في صاحب هذا القرار المتهور الذي سيكدر علينا حياتنا صباح مساء.

عزيزي المجنس السعودي الشقيق، نحن لم نعد نطلب المصيف، بل نسعى خلف فكرة “الخروج من البيت أصلًا”، بينما تتركون أنتم القاهرة، وتتركون معها مشاكلنا من الماء والكهرباء والغلاء، وكأنها كما يقول المصري في لحظة يأسه “ما تخصنيش”.

الساحل الشمالي VS الساحل الكحيان

عمرو بيه، قد لا تعلم، لكن الساحل الذي تعرفه ليس هو الساحل الذي نحاول نحن الوصول إليه. أنتم تذهبون إلى حيث الشواطئ الخاصة والمداخل المزهّوة بالحراس واللافتات وابن الوسخة المدعو الكيو آر كود، بالتأكيد سمعت عن الساحل الطيب والساحل الشرير لكن لم تسمع بالتأكيد عن الساحل الكحيان أو الجربوع في جمصة وراس البر وبلطيم وغيرها إلى الحيث الرمال مشبعة بالذكريات القديمة، والمياه تحمل آثار زجاجات بلاستيكية عابرة للطبقات الاجتماعية وروائح كريهة وبقيا غيارات داخلية لا نعلم من أين تأتي أو كيف.

أما المواصلات، فحدِّث ولا حرج. أنتم، حفظكم الله، لا تسلكون الطريق الزراعي ولا تطاردكم تطبيقات الحجز الجماعي. أما نحن، فنبدأ مصيفنا في “الموقف”، حيث أول خيط عرق ينزل قبل تحرك الميكروباص، ثم نخوض رحلة تتطلب إيمانًا بالصبر، واستعدادًا للتفاوض مع سائق لا يعترف بشيء اسمه “عداد” أو “جدول مواعيد”.

ولا تسألني عن الحقائب. فأنتم تذهبون بحقائب تحملها الخادمات، ونحن نذهب بحقائب نحملها فوق ظهورنا وبداخلها كل شيء حرفيا عشان نوفر!.

عندك لميس؟ قضا أخف من قضا

أخوي عمرو،  أنت إعلامي قدير، لا نشك في ذلك. لكنك مع كل حلقة جديدة تبتعد أكثر عن تلك الطبقة التي كنت تنتمي إليها وتغير جلدك لكي تبدو سعوديا أكثر وأكثر، نعم، تغير الزمن، وارتفعت الأسعار، وانهارت الطبقة الوسطى، لكن من قال إن الإعلامي لا ينبغي أن يشعر بذلك؟ متى كانت الشهرة إعفاءً من الإحساس؟ أو ثراءً يُعفي صاحبه من التعاطف؟

إن مجرد إعلانك عن “إجازة شهر ونص” كفيل بأن يفتن العباد. المواطن العادي وأنا منهم، آخر عهده بالإجازات كان في عيد الأضحى الماضي، حين منحت الموظفين ثلاثة أيام فقط، بشرط أن نرد على الإيميلات، مش بس كدا لأ ونكون أونلاين عشان لو حصل حاجة.
ثم تأتينا أنت، بابتسامتك المرسومة وقرعتك البهية لتحدثنا عن الراحة، والبعد عن صخب الإعلام، والتمتع بـ”نقاء الساحل” .. منك لله يا شيخ!

لميس الحديدي

وقد اجتمعت كعادتي بزملائي في الجريدة قبيل انصرافنا، فوجدت في الأجواء شيئًا من الهمس المكتوم، ونظرات زائغة بينهم. وتساءل أحد التعساء بنبرة فيها من المرارة ما فيها: “هو عمرو أديب هياخد شهر ونص أجازة بجد ياريس؟.. واحنا مش هنصيف ولا حتى نص يوم؟”، ثم تبادلت الأعين حسرات صامتة.

عندها قلت لهم لا تسليةً ولا تبريرًا، بل نوعًا من الفلسفة المجبورة: يا جماعة، الأرزاق مقسومة، وكلٌ مُبتلى على طريقته. نحن ابتُلينا بضيق الحال وقصر المرتّب، وهم ابتُلوا بكثرة المال وكثرة المواعيد. نحن نبحث عن المصيف في إعلانات “Booking” ولا نحجز، وهم يبحثون عن العزلة وسط بحر من الرفاهية ولا يجدون.

ثم قلت ما ظننت أنه كفيلٌ بتطييب الخواطر: “صحيح إحنا مش بنروح الساحل، ولا عندنا إجازة شهر ونص، لكن على الأقل إحنا ما بنصحاش وننام على وش لميس الحديدي كل يوم وهي تعرص للأنظمة ولكل من هب ودب ولو مش قد الشيلة متشلش وغيرها، وهذه والله لنعمة، لا يدركها إلا من ابتُلي، الله يكون في عونه.

ضحكوا، ثم صمتوا. ثم بدأ كل منهم يرتب أوراقه، كأنهم وجدوا عزاء ولو زائفًا في أن الفقر أهون من عشرة الإعلام، وأن قضا أخف من قضا، واللي يشوف لميس غيره تهون عليه بلوته.

فيا أستاذ عمرو، يا أديب، إن كنّا قد فُتنا بساحلكم الشمالي ، فأنتم مفتونون بما لا طاقة لنا به. وإن كان في يدكم البحر، ففي يدنا الحمدلله قليل من راحة البال، وكثير من القناعة، ولسان سليط نكتب به ما لا نستطيع أن نقوله.

لسنا عبيدًا للمال، ولا نُدار بالهاتف من وراء البحار، ولا يُملى علينا الرأي تركي آل الشيخ أو يدينا على قفانا أمام الكاميرات، نحن ما زلنا نحتفظ بشيء من الشرف، بشيء من الكرامة، ونقول “لا” حين تستوجب اللحظة، ولا ننتظر المقابل.

أنتم تُجلدون على القفا براتب، ونحن نجلدكم بالكلمات مجانًا، أو بالعامية: تعيش وتاخد على قفاك، ونعيش ونديلك!.