نشأت الديهي: ملقوش في السيسي عيب قالوا يا أحمر الخدين

في بلد تُقاس فيها الوطنية بحدّة صوتك تجاه أي معارض للرئيس، ويُحتسب فيها الإعلامي بعدد المرّات التي يذكر فيها اسم “عبدالفتاح السيسي” في الدقيقة الواحدة، يصبح المشهد الإعلامي ساحة هتاف جماعي لا تنافس فيها إلا على من يصرخ أولًا، ومن يركع أسرع، ومن يبتكر طريقة جديدة لمدح الرئيس .
في هذه الساحة، يتربّع نشأت الديهي على العرش بلا منازع، لا كمقدّم برامج، بل كصوت خارق للعادة، صُنِع خصيصًا للتمجيد في السيسي، نشأت الديهي ليس إعلاميًا بالمعنى التقليدي، بل ظاهرة صوتية كاملة، صوته وحده قد يُستخدم كسلاح صوتي في الحروب النفسية، نبرته مزيج من الحماسة المصطنعة والانفعال المسرحي – يعتقد الكثير أن قدوته في هذا المجال هو الفنان محمود المليجي -.
أما عباراته فهي محفوظة لا يتغير منها شيء منذ 2014 ، هو لا يُقدّم رأيًا، بل يتلو ما يُقال له، وظيفته الأساسية ليست تنوير الرأي العام، بل تغطية الواقع بطبقة كثيفة من الغبار الوطني حتى لا يرى أحد شيئًا.
هذا الرجل – أو كما يُفضّل أن يُعرّف نفسه “الإعلامي الوطني” – لا يخاطبك كمواطن له عقل، بل كمشاهد محتاج يتعلّم الوطنية على يديه، هو المعلم والواعظ والمنشد والناصح والجلّاد، كلهم في آنٍ واحد، لديه قدرة مدهشة على تحويل أي خبر، مهما كان كارثيًا، إلى دليل جديد على عبقرية عبدالفتاح السيسي، حتى لو غرقت مدينة بالكامل، سيخبرك أن هذه “مياه تنموية”، ولو انهار الجنيه، سيشرح لك كيف أن “الضغط على العملة جزء من الخطة الرئاسية للإنعاش الاقتصادي”.

نشأت الديهي تجاوز مرحلة المذيع، وأصبح “ردّ فعل رسمي” لأي شيء يُقال، إن تحدث الناس عن الغلاء، سيخرج غاضبًا ليقول “هو انتو فاكرين السيسي سوبر مان؟”، وإن تحدّث أحدهم عن القمع، صرخ في وجهه: “السيسي بيبني بلد مش بيدوّر على اللي يرضيك يا مواطن يا عديم الفهم أنت”، هو الصوت الذي يسبق التعليمات، ويستبق القرارات، ويعرف ما يُرضي الرئيس.
في هذا المقال، نحاول أن نفتح الصندوق الأسود لصوت الدولة العالي، ونستعرض نموذجًا إعلاميًا يعتبر عبدالفتاح السيسي هو الحقيقة الوحيدة، والباقي كله “خيش وقش”، أو “خونة مأجورين”، أو – في أضعف الحالات – “ناس سلبية مش بتحب الخير لبلدها”.
نشأت الديهي.. الدينامو الذي لا يهدأ
نشأت الديهي لا ينام، لا يكل، ولا يملّ من طقوس عشق السيسي، في الوقت الذي يتغير فيه كل شيء من حولنا – من سعر الدولار إلى سعر رغيف العيش – يظل نشأت الديهي ثابتًا، كصخرة تمجيد فوق جبل السيسي، لست بحاجة إلى تركيز وقراءة مابين السطور لتعرف التوجه الرسمي للدولة، فقط استمع إلى نشأت، وسوف يصلك كل شيء.
نشأت لا يتحرك كأي إعلامي آخر، بل كجهاز إنذار رئاسي في وقت الأزمات، هو أول من يهبّ مهاجمًا المواطن إذا شكى من الغلاء، سيصرخ فيك أن الرئيس لا يصنع المعجزات بنفسه، وإذا أشرت إلى الفشل، سيشتمك ويتهمك بأنك تموّل من الخارج، أو تتقاضى بالدولار اللعين – لعنة الله عليه-.
أما في لحظات الإنجاز المزعوم – كافتتاح كوبري- فهنا يتحوّل نشأت إلى شاعر جوّال، يُلقي أبياتًا نثرية في وصف عظَمة عبدالفتاح السيسي، ويشبهه بالمخلص والمهندس والحكيم والحداد، إن لزم الأمر.
نشأت الديهي هو الدينامو الذي لا يتوقف، المحرّك الذي بالإشارة، والبطارية التي تُشحن مباشرة من الرئيس عبدالفتاح السيسي، لا تحتاج إلى الكهرباء لتشغيله، يكفي أن يسمع اسم “عبدالفتاح السيسي”، حتى تبدأ شرايينه في ضخ الوطنية المعلّبة، والعبارات المعلبة أكثر.
برنامجه اليومي، من الناحية التقنية، يمكن اختصاره في جملتين:
“عبدالفتاح السيسي بيشتغل أكتر مننا كلنا”،
و”اللي مش عاجبه البلد دي يسيبها ويمشي”.
وإن فكرت مجرد تفكير أن تسأل:
أين ذهبت أموال القروض؟ مثلا يعني
لماذا نُهدر المليارات على العاصمة الإدارية؟ مثلا يعني
ماذا فعلنا في ملف سد النهضة؟ مثلا يعني
فلا تقلق، سيظهر لك نشأت الديهي، بنظرة مليئة بالغضب وبصوت حاد ليذكّرك أن “عبدالفتاح السيسي يعمل ليل نهار” وأن “القيادة عارفة بتعمل إيه”، وأنك مجرد ناكر للجميل تسعى لتقويض الدولة الوطنية المستقرة التي لا ينقصها سوى شوية صبر منك عزيزي المواطن المندفع المتسرع.
في عالم نشأت الديهي، كل شيء يبدأ بعبدالفتاح السيسي، وينتهي به، فلا وجود لخبر اقتصادي دون الإشارة إلى بصيرة السيسي، ولا لمشروع متعثر دون تحميل الشعب المسؤولية لأنه “ما وقفش جنب الرئيس كفاية”، هو الصوت الذي يقول لك إن الطابور فضيلة، وإن العيش بـ3 جنيه إنجاز، وإن الدولار بـ50 جنيه ده امتحان إلهي لصبر المصريين على مشروع قومي لا يفهمونه.
وإذا كنا نعيش في “الجمهورية الجديدة”، فإن نشأت الديهي هو مقدّمتها الغنائية، ومنشدها الرسمي، ومنبّهها اليومي الذي لا يتوقف عن الطنين، حتى لو انقطعت الكهرباء عن البلد كلها.
نشأت الديهي: السيسي حبي الأول
نشأت الديهي مش مجرد إعلامي مؤيد للرئيس عبدالفتاح السيسي، لأ.. إحنا بنتكلم عن راوي عشق لا ينتهي، شاعر في بلاط الجمهورية الجديدة، محب أعمى، لا يرى إلا من خلال هالة الرئيس المقدسة.
هو لا يقدم برنامجه من استوديو، بل من معبد.. مزار مقدس يُذكر فيه اسم “عبدالفتاح” مع كل نفس يُؤخذ على الهواء، تشعر أحيانًا أن كل حلقة في برنامجه هي بمثابة قصيدة مدح جديدة، فيها الوزن والقافية.
في كل صباح، يبدو أن نشأت الديهي لا يشرب قهوته حتى يرى تصريحات عبدالفتاح السيسي أولًا، ولا يبدأ يومه إلا بعد التأكد أن كل جملة قالها الرئيس بالأمس قد فُسّرت وفُككت وفُسّرت مرة تانية حتى يطمئن قلبه، تتخيل أحيانًا أن نشأت لا يكتب سكريبت الحلقات، بل يكتب خطابات حب غير معلنة، وكأنه ينتظر أن يسمع من السيسي جملة واحدة:
“أنا كمان بحبك يا نشأت.”

- ملف التموين؟ السيسي يحارب الغلاء بنفسه.
- سعر الكوسة؟ السيسي يراقب الأسواق بنفسه.
- هبوط الجنيه؟ السيسي يجهّز لنا مفاجأة عظيمة وبردوا بنفسه.
- الكهرباء؟ ضريبة الحضارة اللي شغال عليها السيسي.
مهما كانت المعلومة، يقدر نشأت يحولها لفرصة تطبيل لا نهاية لها ولا آخر.
ملقوش في السيسي عيب قالوا يا أحمر الخدين
في منطق نشأت، المواطن المتألم من الأسعار مش عنده أزمة معيشة، لأ، ده عنده خلل وطني، اللي بيشتكي من انقطاع المياه، أو من فاتورة كهربا أضعاف مرتّبه، ده عميل، حتى اللي بيقول “نفسي البلد تتحسن” بيتصنّف فورًا تحت خانة “المتآمر الخبيث”.
وفي إحدى حلقاته الشهيرة، انفعل نشأت لدرجة إنه نسى اسم البرنامج، وقال بحماس:
“ما لاقوش في البلد عيب، فبيهاجموا الرئيس! ده لو عبدالفتاح السيسي مشى على المية، هيقولوا: أصل ما عرفش يعوم!”

أما لما تسأله عن وضع الجنيه، أو حجم الديون، أو أزمة التعليم والصحة، بيردّ بسؤال هجومي:
“هل تعتقد أن رئيس بيصحى 5 الصبح، وبيقابل مسؤولين ليل نهار، محتاج نصيحتك؟ هل أنت دارس إستراتيجية؟ أنت عارف البلد دي تمشي ازاي ؟ أنت عارف تمشي بيتك لما بتنظر على الدولة.
والمثير للسخرية أن نشأت، في محاولاته المستميتة للربط بين أي نجاح – مهما كان خرافيًا – وبين الرئيس، بيتوه أحيانًا في شطحاته ففي أحد البرامج، علّق على زيادة عدد الجامعات، وقال: “اللي بيشكك في التعليم، يروح يشوف الجامعات الجديدة اللي عملها السيسي، الجامعة فيها كراسي.. فيها تكييفات.. فيها حيطان.. وناس لسه بتقول فين التعليم؟! أنتوا عايزين ايه بالظبط ( وشوح بايده )
والحقيقة، لو كانت الوطنية تُقاس بعدد المرّات اللي تقول فيها “السيسي”، فـ نشأت الديهي يستحق وسام الوطنية من الدرجة الأولى، مع طبلة ذهبية على شكل ميكروفون، محفور عليها بالليزر:
“ملقوش في السيسي عيب قالوا يا أحمر الخدين “