تامر أمين .. ابن الوز عوام

تامر أمين


في عالم الإعلام، هناك من يتدرّج “بالواسطة” ، وتامر أمين هو نموذج لهذا الرجل، رجل لم يظهر فجأة، ولم يهبط علينا من كوكب آخر بل جاءنا من سلالة إعلامية أصيلة، والده هو الكاتب الراحل “أمين بسيوني“، أحد رموز إعلام الستينيات، ومن أوائل من زرعوا بذور الإعلام التعبوي في تربة عبد الناصر الخصبة، في زمن كانت فيه الوطنية تُقاس بعدد كلمات “الزعيم” في الدقيقة. 

أمين بسيوني

تربى تامر على مائدة إذاعة صوت العرب، حيث المديح سياسة، والتحليل مجرد خلفية صوتية للخطبة، فتعلم مبكرًا أن الحياد الإعلامي أكذوبة رأسمالية، وأن الصحافة يجب أن تكون في خدمة الوطن، أو بمعنى أدق: في خدمة من يحكم الوطن. 

لم تكن طفولته مليئة بالقصص المصورة وأفلام الكرتون، بل كان يقضي أوقاته في تقليد صيغ التلقين السياسي، من قبيل: “أيها الإخوة المواطنون.. الزعيم قرر، والشعب اختار”.

تامر لم يكن طفلًا عاديًا؛ كان وهو في السادسة يُقلّد أحمد سعيد في نشرات الأخبار، يقلّب في صوت العرب بحثًا عن خطب جمال عبد الناصر، ويحفظ مقاطع كاملة من مداخلات هيكل وهو يقول “السياق التاريخي”، لم يكن يلهو كباقي أقرانه، بل يجمع أشرطة تسجيل لخطب الرؤساء كما يجمع الأطفال صور لاعبي الكرة، ويقيم جلسات استماع عائلية لخطاب الزعيم، يعقّب عليها قائلاً: “المفروض نعيد الفقرة دي مرتين.. فيها روح”.

وبحلول مراهقته، كان قد كتب أول “سكريبت تطبيل” في كراسته: “الرئيس عنده رؤية.. والشعب مش جاهز للرؤية دي، بس دا مش ذنب الرئيس، دا ذنب الشعب نفسه”.

وما لبث أن تحوّل هذا السكريبت لاحقًا إلى مدرسة متكاملة، صار هو نفسه ناظرها، ومديرها التنفيذي، مدرسة لا تعترف بمفهوم السؤال، بل تعتمد على أسلوب “الجواب المسبق”، كل شيء عند تامر مفسّر من قبل، وكل قرار له مبرر حتى قبل صدوره، وكل معارض عنده متآمر حتى لو كان مش موجود أصلًا. 

وهكذا نشأ تامر أمين، لا كصحفي أو مذيع، بل ككادر حزبي بمؤهل إعلامي، رجل لا يفرق بين العمل الإعلامي والعمل الدعائي، لا يرى في الكاميرا أداة لنقل الحقيقة، بل وسيلة لتثبيت رواية الدولة، في قلبه ترسّبت قناعة أن الرئيس لا يُسأل، وأن مهمة الإعلام هي الترجمة الفورية لعبارات القيادة، حتى لو كانت غامضة، متناقضة، أو ضد المنطق.

تامر أمين.. المؤسس الأول لعلم “التطبيل الوقائي”

التطبيل الوقائي هو اختراع تامر أمين، فكرة أن تمدح السلطة قبل أن تطلب منك ذلك، أن تستبق القرار وتدعمه قبل صدوره، أن تحذّر من مؤامرة وهمية، قبل أن يُعلن عنها أي أحد، تامر هو رجل المرحلة، و”بوق” المستقبل، ومروّج النوايا الحسنة الرئاسية حتى لو لم تُترجم إلى سياسات بعد.

من عباراته التأسيسية في هذا العلم:
“أنا مش محتاج الدولة تطلب منّي أطبّل، أنا بطبّل عشان ضميري مرتاح كده”.
“الرئيس عنده نوايا عظيمة، ودي كفاية”.
“إحنا في عصر لازم الإعلامي يبقى حصان طروادة للسلطة، مش مراقب ليها”.

إنه يمارس التطبيل ليس فقط كوظيفة، بل كقناعة وجودية، كأن التطبيل عنده بديل عن الأوكسجين، إذا سكت تامر دقيقة، يشعر بنقص في الولاء، وذبول في النخوة الوطنية، فيبادر سريعًا بجملة مثل: “الرئيس بيعمل حاجات محدش فينا فاهمها، بس لازم نصدق”.

تامر أمين.. الولاء للرئيس كما يجب أن يكون

لا يوجد في قاموس تامر أمين ما يُعرف بـ”الرأي الآخر”، فالرئيس هو الرأي، والرأي الآخر في السجن إحنا هنهزر ولا إيه؟ الرئيس – من وجهة نظره – ليس مسؤولًا، بل ضرورة تاريخية، هو ليس مجرد قائد بل النعمة التي هبطت علينا بعد عقود الضياع، والصحوة التي انتشلنا بها القدر من مستنقع الغفلة. 

وإذا أردت أن تعرف المدى الحقيقي لولاء تامر أمين، فلا تبحث في تاريخه المهني، بل استمع فقط لنبرة صوته حين ينطق اسم عبدالفتاح السيسي، هناك رعشة في الحنجرة، ودمعة في العيون وانفعال لا تفسّره سوى نظرية الحب غير المشروط.

“لو مشينا ورا السيسي مغمضين.. هنوصّل”، هكذا صرّح، وكأننا نركض في سباق تتابع نبحث عن النور، لا يهم الاتجاه ولا الوجهة، المهم فقط أن نركض خلفه، بعيون مغمضة وقلوب مطمئنة، لأن السائق – حسب تامر – هو الوحيد الذي يعرف الطريق، حتى لو بدت كل العلامات تقول “هنلبس في الحيط يا غبي”.

يقول تامر أمين :
“السيسي مش بيحكم، السيسي بيربّي”.
هنا ينزع تامر عن الرئيس عباءة السياسة ويمنحه عباءة الأبوة الحنونة، فالرئيس لم يأتِ ليقود دولة، بل جاء ليقود مدرسة فيها 100 مليون طفل عاصٍ، الدولة، حسب فلسفة تامر، ليست كيانًا دستوريًا له مؤسسات، بل صف مدرسي يحتاج إلى عصا التوجيه، وجرعة تأنيب، وأحيانًا “علقة” وطنية في شكل إجراءات اقتصادية.

تامر لا يمدح الرئيس فحسب، بل يمنحه صفات فوق بشرية، هو يرى في عبدالفتاح السيسي مشروعًا لإعادة صياغة الإنسان المصري، حتى وإن كان ذلك الإنسان نفسه غير موافق، يرى فيه المهندس والمعلّم والمصلح والمخلّص، وربما لو أُتيح له وقت أطول على الشاشة، لألحق به لقب “المنقذ الأممي”. تامر لا يسأل نفسه أبدًا: لماذا لم تُثمر كل هذه السنوات من التربية الرئاسية عن تحسين في معيشة الناس؟ بل يفضّل أن يحمّل الناس مسؤولية فشلهم في “استيعاب الدرس”، تمامًا كما يحمّل الطالب الكسول مسؤولية سقوطه في امتحان وضعه أستاذ عربي وفرنساوي لغاية مايجيبوا مدرس فرنساوي. 

تامر أمين: اللي مش عاجبه مصر يغور

من أحبّ تصريحات تامر أمين إلى قلبه – وإلى قلب السلطة – تلك التي قال فيها بمنتهى الصدق والفجاجة:
“اللي مش عاجبه البلد، باسبوره ويغور”

هذه العبارة، التي تصلح أن تُنقش على بوابات مدينة الإنتاج الإعلامي، لا تعبّر فقط عن رأي مذيع، بل تعبّر عن عقيدة سياسية كاملة: الوطن مشترك بشرط موافقتك على كل شيء فيه، وإلاّ تُصبح دخيلًا، ومطعونًا في هويتك، وتُحال إلى المطار فورًا، أو إلى سويسرا وربنا يوفقك هناك بقا. 

في هذه العبارة، يُعلن تامر أمين افتتاح مدرسة جديدة في الإعلام:
مدرسة “الإعلام بالطرد”، لا بالحجّة، لا بالنقاش، بل بالزعيق والنفير العالي.
مدرسة ترى أن الوطنية ليست انتماءً، بل تصريح إقامة مشروط بمستوى تطبيلك، فإن قلّ التصفيق، تقرر لجنة القيم الإعلامية أنك لم تعد تصلح للبقاء بين الوطنيين، وهنا يظهر تامر، لا كإعلامي، بل كموظف جوازات يحدد من يحق له البقاء في مصر، ومن عليه أن “يغور”.

تامر لم يكتفِ باستخدام المايكروفون، بل استخدم الكفّ الافتراضي، لطرد كل من لا يطبّل مثله، “مصر مش مستنية حد!”، عبارة تصلح شعارًا لحملة طرد جماعي لكل من تسوّل له نفسه الحديث عن نقص دواء، أو أزمة تعليم، أو حتى كوب شاي لم يعد بمقدور المواطن العادي تحمّله.

لكن السؤال الأهم: من خوّل تامر أمين الحديث باسم مصر؟
من الذي أوكل إليه مهمّة إصدار تصاريح الوطنية، وسحب الجنسية المعنوية ممن يختلف مع سياسات الحكم؟
والصراحة معنديش إجابة لو مستني أجاوبك يعني! 

وفي نهاية الأمر، لا يطلب تامر أمين منك سوى شيء واحد:
أن تتخلى عن عقلك، وتحتفظ بجواز سفرك مفتوحًا، لأن أي رأي قد يكلّفك الترحيل الفوري، لا إلى خارج البلد، بل إلى خارج الوطنية نفسها.

تامر أمين وحزب مستقبل وطن.. قصة عشق 

عندما صرّح تامر أمين مؤخرًا قائلًا:
“لو ماكنتش إعلامي.. كنت أتمنى أبقى في حزب مستقبل وطن!”
لم يكن الرجل يمازح جمهوره، بل كان يسجّل رسميًا انتقاله من خانة “الإعلامي” إلى خانة “العضو المتاح للطلب في حزب الدولة”.

 تصريح كهذا لا يأتي من فراغ، بل هو تعبير صادق – للأسف – عن المسافة التي قطعها الإعلام المصري من الاستقلال المهني إلى التحوّل الكامل إلى حزب الدولة. 

تامر أمين لم يكن فقط يُبدي إعجابه بحزب مستقبل وطن، بل كان يُرسل إشارات مفتوحة للحزب وللسلطة معًا: أنا مش مجرد إعلامي، أنا مؤمن حقيقي بالمشروع، وكنت أحب أشتغل فيه حتى من غير مرتب لو عايزين يعني. 

تامر، بتصريحه ذلك، لم يحرج أحدًا، لأنه ببساطة قال ما يفعله معظم الإعلاميين دون تصريح، لكنه فقط رفع الغطاء قليلًا عن الطبخة: الإعلام مش محايد، الإعلام عضو عامل في أمانة حزب الدولة ومثلما هناك “مذيع أخبار” على الشاشة، هناك مَن يُشبهه تمامًا في الحزب، يكتب نفس الجمل، يردد نفس الهتافات، ويؤمن أن مصر ليست بلدًا وإنما “مكان للبشوات” لا يجوز المساس بهم.

ولأن تامر يحب دائمًا أن يكون “سبّاقًا” في كل شيء – حتى لو كان التطبيل – فقد استبق الزمن وقرّر إعلان ولائه صراحةً، وكأن الإعلام المهني لم يعد كافيًا لطموحه، أو ربما لأن التطبيل داخل الحزب الرسمي أصبح أكثر ربحًا من التطبيل العشوائي في البرامج.

والسؤال هنا: هل ما زال هناك أحد يصدّق أن تامر أمين إعلامي مستقل؟
الإجابة ليست ضرورية، لأن تامر نفسه أجاب عنها ببساطة:
“لو ماكنتش إعلامي، كنت بقيت في حزب الرئيس السيسي!”

هكذا تتلخص حكاية تامر أمين: مشروع عائلي ناجح بدأ في الستينيات بـ أمين بسيوني الذي وضع أسس الإعلام التعبوي، وانتهى بتامر الذي أخذ نفس “السكريبت” القديم، غسله بماء الوطنية الجديدة ، وبدأ يوزعه من جديد – مع إضافات صوتية وتأثيرات عاطفية – على جمهور منهك لا يجد وقتًا ليستوعب كل هذا الضجيج.

إنه تطبيل عبر الأجيال، إرث عائلي محفوظ: “في خدمة الزعيم من جيل لجيل”.