رسالة إلى إسرائيل.. هو احنا عاد فينا حيل؟!

رسالة إلى إسرائيل

في زمن الحروب والقصف والصواريخ، كنا دائمًا نظن أن أسوأ ما قد يحدث هو أن تنهال علينا الضربات من السماء لكن الحقيقة أن الضربات التي تأتي من الأرض من قرارات الحكومة ومن فواتير الكهرباء ومن بيانات البنك المركزي أقسى وأوجع. نحن الآن، تحت حكم السيد الرئيس القائد الفذ عبد الفتاح السيسي، نعيش حياة تشبه الحياة تحت القصف بلا صواريخ، بلا انفجارات لكن بنفس النتيجة: انهيار يومي خوف دائم فقدان مستمر لأي إحساس بالأمان.الأسعار تقصفنا، الرواتب تنهار كأنها بنايات من طوب هش، الخدمات تتهاوى كأنها تحت وابل من الغارات والإعلام يوزع بيانات النصر والانتصار كأننا في معركة تحرير القدس. ولذلك ومن منطلق الصراحة والواقعية، فكرت كثيرا قبل أن أتوجه بهذه الرسالة إلى المحتل الإسرائيلي الغاشم : اقصفونا وريحونا عالأقل يبقى فيه مبرر لكل اللي بيحصل في حياتنا.

رسالة إلى إسرائيل.. بين صواريخ السماء وصواعق الأرض

في زمنٍ تتساقط فيه الصواريخ فوق تل أبيب، وترتجف منصات الدفاع الجوي الإسرائيلي من فرط الاستنفار، يفتح المواطن المصري تطبيق التموين ليكتشف أن “الزيت غير متوفر حاليًا”. على الجانب الآخر من الحدود، تطير المسيرات الإيرانية في السماء بينما هنا، يطير سعر كيلو الطماطم في السوق المحلي بلا قيد أو شرط أو دفاع جوي. الناس هناك يحصون الصواريخ ونحن هنا نحسب الزيادة في فاتورة الكهرباء، في إسرائيل يركضون إلى الملاجئ، ونحن نركض يوميا على أكل عيشنا أو في المحلات خلف العروض الوهمية لـ”اثنين كيلو رز بسعر واحد ونص”، بشرط الشراء قبل نفاد الكمية، أو نفاد الأمل أيهما أقرب. الخوف عندهم لحظي لحظة وقوع الانفجار، أما عندنا فهو مستدام، ممتد، مزمن خوف من الغد، من الأسعار، من الغلاء، من كلمة “زيادة مرتقبة” في أي بيان حكومي. في الخارج، الصواريخ تمر من فوق رؤوس الناس، وفي الداخل عندنا في بلد الأمن والأما ن الأسعار تمر من فوق قدرتنا الشرائية بنفس صوت الانفجار لكن بأشكال مختلفة: هناك انفجار مدوٍ في السماء، وهنا انفجار في سعر كيلو الفول وفي فاتورة الكهربا وفي قسط المدرسة وفي إيجار الشقة. في تل أبيب ينزلون إلى الأقبية والملاجئ كالفئران بحثًا عن الأمان، وفي القاهرة ننزل إلى الشارع نبحث عن شبكة موبايل وسط انقطاع الكهرباء.

رسالة إلى إسرائيل.. إعلامنا من حديد

وواقع من ورق فتحت القنوات المصرية، أبحث عن تغطية مباشرة أو تحليل استراتيجي محترم أو حتى مجرد خريطة توضيحية لحركة الصواريخ، لكن ما وجدته كان أكثر إثارة من كل هذا، أحمد موسى مذيع مبتهج، يبتسم وكأنه بيقدم فقرة عن أحدث خطوط الموضة، ويبدأ في سرد الإنجازات بصوت صياح يكاد يخرم طبلة أذني: “مصر.. الدولة الوحيدة التي نجحت في الصمود أمام كافة التحديات من كورونا إلى الإرهاب إلى موجات الغلاء وصولًا إلى الظروف الإقليمية الحالية.” أما الخبير الإستراتيجي لؤي الخطير، الذي يشخصن كل حدث إقليمي ليحشر فيه الست الوالدة، ويؤكد لنا أن مصر هي أمه، وأنه محظوظ بها لاسيما أنه يرضع منها الوطنية يوميا، ولا ينسى كذلك أن يفتخر كالعادة بالقيادة السياسية التي تعاملت مع الموقف بحكمة مصر لأنها دولة محورية وصوت العقل في منطقة مضطربة. واصلت متابعة القنوات لكن كل ما وجدته هو “استراتيجية الردع المصرية”، و”الدور المصري الريادي في تحقيق الاستقرار الإقليمي”، وديهي هنا وباز هناك يصيحون بكلمات مكررة بلا معنى على غرار أن “مصر تمارس دورها التاريخي كقوة إقليمية تعرف متى تتدخل ومتى تتريث”. وأنا أراقب هذا المشهد من غرفة بلا كهرباء، أكتب مقالي هذا على بطارية اللابتوب قبل أن تنفد مثلما نفد صبري مثلما نفد المرتب قبل نصف الشهر.

الكهرباء.. أول من أعلن الاستسلام

وبينما يُعلن العالم حالة الطوارئ، أعلنت الكهرباء عندنا حالة الهروب، قطع عشوائي غير معلن رغم أنهم أعلنوا جدول تخفيف الأحمال وبلعناه مجبرين لكن الحياة لا تخلو من المفاجآت وكذلك جدول انقطاع الكهربا. لكن نصف الكوب المليان يكمن في أنه ربما تهدف الدولة من هذه التمارين القاسية إلى تأهيلنا كشعب الى العيش بلا بنية تحتية استعدادًا ربما لليوم الذي تقصفنا فيه إسرائيل ويصبح انقطاع الكهرباء فرضا حتميا حينها، وليس قرارًا استراتيجيًا كما يحدث حاليا كنوع من المشاركة الرمزية في الصراع الإقليمي. المثير أنه بينما يتحدث العالم عن استهداف محطات الطاقة في إسرائيل، نحن هنا بلا حاجة لصاروخ واحد لكن الكهرباء تختفي من تلقاء نفسها ونقضي ساعات طويلة في ظلام. يخطر في بالي أحيانًا أن إسرائيل لو فكرت في استهداف البنية التحتية المصرية ستتراجع فورًا لأنها ستكتشف أنه لا يوجد ما يستحق القصف أصلاً!

الاقتصاد صواريخ من الداخل

وفيما تتساقط الصواريخ هناك، يتساقط الجنيه هنا كل يوم انخفاض جديد وكل ساعة زيادة جديدة في الأسعار أما رئيس الحكومة الغضنفر مصطفى مدبولي فلا توجد في فمه إلا لبانة واحدة يلوكها باستمرار أن “الوضع تحت السيطرة” بينما السيطرة الحقيقية أصبحت في يد محلات التموين، وبائعي السوق السوداء. الأرقام الرسمية تؤكد أننا على طريق الإصلاح وأرقام المواطن تؤكد أنه على طريق الإفلاس، المؤشرات الاقتصادية في صعود لكن روحنا المعنوية في هبوط حر

إلى فريق العمل

دعك من كل هذا الضجيج الإقليمي، ولتكن آخر كلماتي موجهة لزملائي هنا في الجريدة: أعلم أن بعضكم يشعر بالحماس ويعيش لحظات تحليلات عسكرية وهمية وربما يكتب منشورات من عينة: “نهاية إسرائيل اقتربت” ويرسل لي رسائل من نوعية: “ريس.. ممكن نعمل تغطية خاصة للأحداث؟” لكن الحقيقة أن معركتنا هنا ليست في طهران، ولا في تل أبيب بل في مكتب التحرير. معركتنا مع مواعيد التسليم مع التدقيق اللغوي مع الديون المتراكمة على هذه الجريدة الوليدة ومع الميزانية التي تنخفض بسرعة تنافس سرعة الصواريخ. أرجو من الجميع ترك متابعة البث المباشر، والكف عن إرسال مقاطع من قناة الجزيرة، والتوقف عن لعب دور المحلل العسكري، مطلوب منكم شيء واحد أن تحاربوا جبهتكم الشخصية، جبهتك هي ملف الوورد اللي مفتوح قدامك، جبهتك هي مقال الرأي اللي متأخر، جبهتك هي جدول النشر اللي مهدد بالانهيار أكتر من أي برج في تل أبيب. كل واحد منكم عنده جبهة، مش لازم تبقى جبهة غزة ولا جنوب لبنان، كفاية الجبهة اللي بينك وبين الحياة اليومية بينك وبين آخر جنيه في المحفظة، فركزوا في أكل عيشكم أحسن، صدقوني احنا في حالة حرب من زمان والله. ختام…

من قلب الوجع

وفي الختام، لو جاء القصف فمرحبًا به، على الأقل، سيكون لدينا لأول مرة في حياتنا سبب منطقي لانقطاع الكهرباء، وعذر مقبول لغياب المياه، ومبرر حقيقي لارتفاع الأسعار. أو بكلمات أخرى لو كان لا مفر من القيامة فلتأتِ سريعًا، لعل الحساب هناك يكون أهون من الحساب هنا، ولعل النهاية العظيمة أرحم من النهايات اليومية الصغيرة، نهايات المرتب قبل نهاية الشهر، نهايات الحلم بالراحة، ونهايات الأمل في تحسن الأوضاع، وحتى ذلك الحين استعدوا لمعارككم كلٌ في موقعه لأن الحرب هنا لا تنتهي.