5 أوجه للشبه بيني وبين الرئيس السيسي

في لحظة تأمل نادرة، وربما لحظة صراحة متأخرة، وجدت نفسي أُقلب في تفاصيل حياتي اليومية داخل هذه المؤسسة العريقة، وأقارن بين معاناتي الشخصية كرئيس تحرير، وبين ما يواجهه السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي من تحديات جسام في إدارة شؤون الدولة.

المقارنة قد تبدو للبعض نوعًا من المبالغة أو حتى الغرور، لكن الحقيقة أن بيني وبين الرئيس مساحات مشتركة لا يمكن تجاهلها. نعم، نحن من عوالم مختلفة، هو يقود دولة، وأنا أقود غرفة أخبار متواضعة، لكنه في النهاية، وأنا في النهاية، نقف أمام نفس النماذج من البشر: جمهور لا يرضى، موظفون لا يشكرون، ومطالبات بلا نهاية، وحديث دائم عن الحقوق، بينما لا أحد يذكر شيئًا عن الواجبات.
أول وجه للشبه: إنكار الجميل الدائم
السيد الرئيس، ورغم كل ما بذله من مشروعات قومية، وكباري متشابكة، وعواصم إدارية، وقصور رئاسية جديدة، ومحطات تحلية، وشبكات طرق تمتد بطول الخريطة وعرضها، ومؤتمرات دولية لا تنتهي، ومبادرات تحمل أسماء رنانة من نوعية “حياة كريمة” و”الجمهورية الجديدة“، ما زال يواجه شعبًا يتذمر من أبسط التفاصيل اليومية.
المواطن البسيط، وكعادته التاريخية، لا يرى من الصورة سوى زاوية واحدة: زاوية الغلاء. يتحدث عن ارتفاع الدولار كأنه جاء فجأة دون مقدمات، يشتكي من زيادة أسعار البنزين وكأنها مؤامرة شخصية ضده، ويتحسر على فاتورة الكهرباء والمياه دون أن يسأل نفسه مرة واحدة: من أين تأتي هذه الإنجازات؟ كم عدد الاجتماعات التي يحضرها الرئيس في اليوم الواحد؟ كم ساعة يقضيها في التنقل بين افتتاح هذا المشروع، وتدشين ذاك الطريق، وإلقاء كلمة هنا، واستقبال وفد هناك؟ كم ليلة باتها سهرانًا يراجع ملفات الاستثمار ويضع خطط التنمية؟
المشهد ذاته أعيشه يوميًا داخل الجريدة، وإن كان بحجم أصغر وميزانية أقل. أظل لساعات أطارد الأخبار المتفرقة، وأراجع التقارير القادمة من كل الزوايا، وأعقد الاجتماعات التي تبدأ بلا موعد وتنتهي بلا قرار، وأستمع إلى شكاوى الجميع: من قسم التحرير إلى فريق الإخراج، من السوشيال ميديا إلى التصوير، من الإدارة المالية إلى قسم التوزيع.
كل محرر لديه قائمة مطالب، تبدأ بالزيادة في الرواتب ولا تنتهي بتعديلات على مواعيد العمل، وكل موظف يشعر داخليًا بأنه مظلوم ومستَغَل، وأن الجريدة كلها قائمة على كتفيه وحده. أتعامل مع رسائل استقالة مكتوبة على عجل، ورسائل احتجاج مرسلة في منتصف الليل، واجتماعات عاصفة في الممرات، وكل ذلك وأنا أجلس على مكتبي، أتنقل بين مكالمات الطباعة، ورسائل الشكوى من الجمهور، ومطالب الإدارة العليا.
ورغم ذلك كله، لا أحد يلتفت إلى الحقيقة الأهم: أنني، كغيري من صناع القرار، أقضي وقتي في إدارة هذه الفوضى اليومية، وأتحمل نتائج كل قرار، وأدفع ثمن كل خطأ يقع فيه أحدهم. الموظفون هنا، تمامًا كالمواطنين هناك، يرون النتيجة النهائية، يشيرون إلى المشاكل، يطالبون بالتغيير، ولكن لا أحد يتوقف ليسأل: من الذي يسهر؟ من الذي يتخذ القرارات الصعبة؟ ومن الذي يتحمل عبء هذا المركب حين يتأرجح وسط الأمواج
ثاني وجه للشبه: مفيش تقدير للأسف!
في كل مرة يُعلن فيها عن افتتاح محطة كهرباء جديدة، أو تدشين طريق دولي يمتد لعشرات الكيلومترات، أو إطلاق مشروع قومي تحت شعار “الإنجاز المستدام”، لا يتوقف المواطن عند حجم الجهد المبذول، ولا عند ساعات العمل التي قضاها المهندسون والمخططون والعمال، ولا حتى عند حجم الإنفاق الذي تجاوز الأرقام المألوفة. بل يبدأ مباشرة في طرح السؤال المتكرر: ماذا استفدت؟ هل انخفضت فاتورتي الشهرية؟ هل قلت الأسعار؟ هل أصبح الطريق إلى عملي أقل زحامًا؟
المنطق ذاته يتكرر داخل أسوار هذه الجريدة. عندما نصدر مقالا جيدًا يحمل عناوين قوية، أو نحقق نسب مشاهدات مرتفعة على منصاتنا الرقمية، أو ننجح في الوصول إلى ترند مؤقت على مواقع التواصل، لا أحد يتوقف ليقول: شكرًا. لا زميل يرسل رسالة تقدير، ولا موظف يبادر بكلمة دعم. الجميع يتعامل وكأن هذا هو الطبيعي، وكأن هذه الإنجازات حدثت تلقائيًا، بلا مجهود، وبلا ضغط، وكأن النجاح صار واجبًا مفروضًا علينا تنفيذه يوميًا دون كلل أو ملل.
أما في حالة حدوث أي تراجع طفيف، ولو ليوم واحد، تبدأ المؤامرات الصغيرة في التشكُّل. اللجان الداخلية تنشط فجأة، الرسائل المجهولة تصل إلى بريدي الإلكتروني تحمل عبارات مبطنة عن ضعف الإدارة وسوء التخطيط، والنقاشات الجانبية تتحول إلى تحليلات اقتصادية عميقة حول أسباب فشل الجريدة في الحفاظ على الأداء المتوقع.
الإنجاز صار في نظر الجميع حقًا مكتسبًا لا يستحق التقدير، بل صار أقل القليل مما يجب تقديمه. أما التقصير، ولو عابرًا، فتحوَّل إلى جريمة تاريخية، تستوجب المحاسبة والتحقيق، وربما جلسات عتاب جماعية على مستوى مجلس التحرير.
وهكذا، مثلما يتحمل الرئيس وحده مسؤولية كل أزمة، من سعر البيضة وحتى ملفات السياسة الخارجية، أتحمل أنا وحدي مسؤولية كل انخفاض في التفاعل، وكل خطأ إملائي، وكل منشور سقط من الجدول اليومي للنشر، دا عيشة بقت تقصر العمر!
ثالث وجه للشبه: فنون التعريض والتطبيل
السيد الرئيس، ومن خلفه ترسانة إعلامية لا تعرف الكلل، يمتلك منابر متخصصة في صناعة الأبطال من فراغ. تصريح بسيط عن زراعة أشجار الزينة يتحول إلى خطة قومية لتغيير المناخ. كلمة عابرة عن ضرورة الصبر تتحول إلى درس في الوطنية وحب الوطن. حتى القرارات الاقتصادية القاسية تجد من يسوّقها على أنها “جرأة في اتخاذ القرار” و”رؤية إصلاحية غير مسبوقة”.
لا يمر يوم دون أن تخرج البرامج الحوارية لتُخبر المواطن أن ما يحدث على الأرض هو معجزة القرن. مشاهد الافتتاحات أصبحت فقرة ثابتة في يوميات المواطن المصري، يتنقل من كوبرى إلى محطة مياه، ومن محطة مياه إلى مؤتمر عن إنجازات البنية التحتية.
أما أنا، فلي أدواتي الخاصة التي لا تقل فاعلية. أكتب افتتاحيات تحتفي بما حققناه من أرقام متواضعة، أحتفل بوصول فيديو متواضع إلى ألفي مشاهدة كما لو أنه تجاوز حاجز المليون، وأصدر بيانات داخلية تتحدث عن “مرحلة جديدة من النجاح” و”طفرة رقمية مشهودة” رغم أن التقرير الأسبوعي يقول عكس ذلك. أحرص على استخدام عبارات مثل: “تحسن ملحوظ في المؤشرات”، و”استجابة جماهيرية إيجابية”، و”ردود فعل مشجعة من المتابعين”، حتى لو كانت التعليقات الوحيدة على الفيديو من موظفي القناة أنفسهم.
المديح هنا وهناك صار جزءًا من المنظومة. أحيانًا نضطر لزيادة الجرعة، وأحيانًا نرفع منسوب الإعجاب المفتعل حتى يبدو الأمر وكأنه انتصار وطني صغير داخل الجريدة. وفي اللحظات الصعبة، حين تقل نسبة التفاعل وتنخفض الأرقام، أجد نفسي أستدعي نفس المدرسة الإعلامية الرئاسية: أجلس في اجتماع طارئ وأقول لهم: “الناس مش فاهمة قيمة اللي بنعمله، القبطان لازم يقود السفينة لبر الأمان مهما حصل“.
الفارق الوحيد أن الرئيس عندما يقرر رفع جرعة التصفيق، تتحرك القنوات، والمذيعون، وضيوف البرامج، والكتاب أصحاب الأعمدة اليومية. أما أنا، فأكتفي بفريق التحرير، وبعض عبارات الحماس التي أرسلها بنفسي إلى جروب العمل على الواتساب، وأحيانًا أكتب تعليقًا من حسابي الشخصي لدعم المنشور الضعيف فالمعركة في النهاية، واحدة فقط اختلاف في الحجم وعدد الكاميرات.
رابع وجه للشبه: انتو هتخوفوني ولا إيه؟؟
الرئيس، بحكم منصبه، يتمتع بحزمة من المميزات يصعب حصرها أو حتى تخيل مداها. مواكب رسمية بطول الأفق، قصور رئاسية جديدة كل عام، طائرات خاصة مزودة بأحدث وسائل الراحة، واحتفالات متكررة تقام خصيصًا على شرفه كلما افتتح مشروعًا جديدًا، أو حتى عندما يُعيد افتتاح مشروع قديم بحلة مختلفة. بالإضافة إلى ذلك، هناك جلسات التصفيق الجماعي، وحفلات التكريم، والدرع الذهبي الذي صار رمزًا لكل مناسبة رئاسية.
أما أنا، وإن كان نطاق سلطتي أقل بكثير، فلا يمكنني الادعاء أنني بعيد عن هذه الثقافة. لي مكتب خاص يفوق في مساحته احتياجاتي العملية، سيارة تابعة للمؤسسة لا أضطر لدفع بنزينها، بدلات سفر داخلية وخارجية أحيانًا لمجرد حضور مؤتمر شكلي، ومكافآت سنوية لا ترتبط من قريب أو بعيد بحجم الإنتاج الفعلي أو جودة المحتوى.
أدرك جيدًا أن كثيرًا من الزملاء هنا يتحدثون فيما بينهم عن هذه المزايا، تمامًا كما يتحدث المواطنون في الشارع وعلى مواقع التواصل عن ميزانيات الرئاسة، وعن حجم الإنفاق العام، وعن الأرقام الخرافية التي يتم تداولها كلما ظهر مشروع جديد في الأفق، أو كلما تم الإعلان عن افتتاح قصر رئاسي جديد، أو طريق طوله بالكاد يتجاوز نصف كيلومتر لكنه يحمل اسمًا يوحي بأنه مشروع القرن.
لكن الفارق الجوهري أنني، مثل السيد الرئيس، أؤمن عن قناعة راسخة بأن هذه المزايا ليست ترفًا زائدًا عن الحاجة، ولا عبئًا على ميزانية المؤسسة، بل هي جزء أصيل من متطلبات المنصب، وتكاليف القيادة، وسعر النجاح. القيادة ليست بالمجان، والتعامل مع الأزمات اليومية والقرارات الصعبة يحتاج إلى محفزات نفسية ومعنوية.
وكما قال السيد الرئيس في إحدى خطاباته الشهيرة، والتي أحتفظ بتسجيلها كمرجع معنوي خاص بي: “آه آمال إيه أنا عامل قصور رئاسية وهأعمل تاني، أنتم هاتخوفوني ولا إيه؟ مافيش حاجة باسمي، ده باسم مصر“.
وأنا بدوري أقولها بنفس الروح: نعم، لدي مكتب خاص وسأطلب مكتبًا أكبر قريبًا لدي سيارة من المؤسسة وسأطالب بسيارة جديدة العام المقبل، أحصل على بدلات سفر وسأواصل طلبها لكن ليس من أجل نفسي، بل من أجل الجريدة، من أجل المؤسسة من أجل المصلحة العامة.
وإن كان الرئيس يبني عاصمة إدارية كاملة، ويشيد مدينة للفنون والثقافة هي الأكبر في الشرق الأوسط وربما في العالم، فأنا أيضًا أبني هنا أبني منصة إعلامية وأرسي قواعد مهنية وأشق طريقًا وسط الأزمات.
هي ليست مجرد مزايا إذن هي “تكاليف القيادة”، وفاتورة النجاح. وحق أصيل لمن يتحمل مسؤولية أن يظل واقفًا بينما يتفرغ الآخرون للنقد والتعليق.
خامس وجه للشبه: هي الوعود بفلوس؟
كما يطالب الرئيس شعبه بأن يتحمل، ويحثهم في كل خطاب على ضرورة الصبر، ويُذكرهم بأن الخير قادم، وأن الفرج قريب، وأن كل أزمة هي مجرد مرحلة مؤقتة ستنتهي حتمًا بإنجاز عظيم، أطالب بدوري موظفيّ الأعزاء بأن يصبروا، وأن يتحلوا بروح المسؤولية، وأن يتوقفوا ولو للحظة عن عدّ الأيام المتبقية في الشهر حتى موعد الراتب، وكأنني أملك في خزينة الجريدة مصباح علاء الدين.

وكما يكرر الرئيس وعوده الموسمية، فتارة يطلب منهم الصبر لعامين، وتارة أخرى يؤجل الفرج لستة أشهر، ثم يعود بعدها بعام جديد ليطلب منهم سنتين إضافيتين من التحمل، حتى صار المواطن المصري يحسب الزمن بوحدات قياس خاصة: “مرحلة الصبر الأولى، مرحلة الصبر الممتدة، مرحلة الصبر المتجدد”.
أجد نفسي أكرر الأسلوب ذاته مع زملائي في الجريدة: أطلب منهم التماسك خلال هذا الربع المالي، ثم أمددها حتى نهاية العام، ثم أطلب منهم انتظار الخطة الجديدة في السنة المقبلة، وهكذا دواليك.
وكما يواجه السيد الرئيس الانتقادات اليومية، واللافتات الساخرة، والتغريدات الغاضبة، بابتسامة سياسية محسوبة، ودعوات للمزيد من التفهم، أجد نفسي أواجه عبارات التذمر داخل هذه المؤسسة بنظرات حازمة، وأحيانًا بقرارات إدارية لا تحتمل النقاش. أقوم بتعديل الجداول، وأُعيد توزيع المهام، وأصدر تعليمات مباشرة قد لا ترضي الجميع، لكنها في النهاية ضرورية لسير العمل واستمرارية الإنتاج.
نحن الاثنان نعرف جيدًا، وعن تجربة طويلة، أن الناس لن ترضى مهما قدمنا، وأن الشكوى ستبقى طابعًا عامًا لصيقًا بكل من يتعامل معنا. المواطن هناك يرى الأسعار قبل أن يرى المشروعات، والموظف هنا يرى ساعات العمل قبل أن يرى عدد المشاهدات أو نسب التفاعل. النقد مستمر، والاتهامات جاهزة، والاعتراضات حاضرة، سواء كان الأمر يتعلق بمشروع قومي قيمته مليارات، أو فيديو مدته دقيقتان لم يحقق الأرقام المرجوة.
لكننا أيضًا نعرف يقينًا أن الاستمرار في الطريق، دون الالتفات كثيرًا إلى الأصوات الجانبية، هو السبيل الوحيد للنجاة. التوقف يعني الفشل، والتردد يعني الانهيار، والتراجع يعني الاعتراف الضمني بالخطأ، وهو أمر غير وارد في قاموسنا. لا في القصور الرئاسية، ولا في مكاتب التحرير.
وكما أن الدولة تمتلك ما يكفي من أدوات الردع لمن لا يلتزم بالتعليمات، ويخرج عن الصف، وتضع دائمًا في الخلفية خيار “المراجعة الأمنية” و”الحبس الاحتياطي” و”التدابير الوقائية”، فإنني، بحكم منصبي، أمتلك بدوري أدواتي الخاصة. قد لا تكون بنفس القسوة، لكن لها ذات التأثير. الفصل التعسفي قائم، التقييمات السلبية جاهزة، وخصم الحوافز قرار لا يحتاج إلى الكثير من التردد.
في النهاية، سواء كنت رئيس تحرير يلاحق نسب التفاعل، أو رئيس جمهورية يطارد قروض صندوق النقد، أو حتى مجرد مسؤول يحاول إدارة مؤسسة تمتلئ يوميًا بأصوات الاعتراض والشكوى، تبقى القاعدة واحدة نحن باقون في مواقعنا، نؤدي مهامنا، ونتحمل مسؤولياتنا، ونتعامل مع المعترضين بالطرق التي تراها القيادة مناسبة بالاعتقال أو الحبس أو الفصل التعسفي مش هتفرق، ولأنني أستلهم الحكمة من أصحاب القرار، أجد أنه من المناسب أن أختتم هذا المقال بنفس الروح التي اختتم بها السيد الرئيس أحد خطاباته قائلاً: “أنا ضهري ربنا.. واللي يقدر على ربنا.. يتفضل يا ولاد الـــــ”.