سؤال محير.. متى يتوقف المصري عن التصرف كالقرع ويبطل يمد لبرا؟

المصري

في زمنٍ غابت فيه القيم، وتبدّلت فيه الأولويات، وصار الغُلب هو العملة الرسمية، والغربة الحلم الشعبي الأكثر تداولًا، والخلاص مجرد وهم معروض في مكاتب السفريات بجوار صور لبرج خليفة وتمثال الحرية، يظل السؤال المحير قائمًا: متى يتوقف المصري عن التصرف كالقرع ويبطل يمد لبرا؟

تتعالى الأصوات في كل مناسبة: “كفاية بهدلة في الخليج”، “كفاية كفيل ما بيقبضش”، “كفاية انتظار حوالة جاية من آخر الدنيا عشان ندفع إيجار الشهر”. أصوات أنهكها الانتظار على أبواب السفارات، ودوّخها الترحيل من مطارات بعيدة، فظنّت أن الحل الأبدي هو الهروب من القهر بينما الحقيقة أن القهر له أشكال، وله أعلام مختلفة، وله حدود سياسية متباينة لكنه في النهاية نفس القهر بلون جديد.

وفي مواجهة هذا النزيف البشري المستمر، تخرج الدولة المصرية عن صمتها المعتاد، وتعلنها بوضوح وصرامة وطنية، بنبرة لا تخلو من الحزم… ولا من العين الحمرا: “ما تروحش بعيد إحنا هنا، إحنا كفيلين بيك وهنذلك بنفس الطريقة”.

نعم، في وطنك مصر، الكفيل مش شخص، الكفيل مؤسسة أو جهة سيادية أو جهاز مركزي أو وزارة مالية أو صندوق سيادي وعدد لا حصر له من اللجان المختصة. وعلى رأس كل هؤلاء نظام كامل يحبك حبًا خالصًا، نظام يعرف متى يمنحك الفرصة، ومتى يشد عليك ومتى يذكّرك بأهمية الصبر والرضا وكل ذلك طبعًا، لمصلحتك الشخصية.

وإن كان ولابد من وجود كفيل، فليس عليك عناء السفر ولا مشقة الغربة لأن كل عناصر التجربة الخليجية متوفرة محليًا: الضغط موجود، القهر حاضر، التأخيرات في الرواتب مضمونة، الخصومات تلقائية والمعاملة بنظام الاستعباد في معظم القطاعات، مع إضافة مصرية أصيلة: ختم النسر محفور على جبينك أو قفاك كما تحب، ولافتة “تحيا مصر” معلقة على كل باب من بوابات المصالح الحكومية إلى أبواب مصانع القطاع الخاص، وصولًا إلى شاشة الموبايل في كل مرة تحاول تبحث عن فرصة شغل على تطبيقات التوظيف.

السيسي كفيلي مش بس رئيسي

في بلادٍ أخرى، الكفيل مجرد شخص، صاحب شركة، تاجر أرزاق، أو حتى فرد متسلّط يمضي على عقدك وهو يشرب الشاي، يخصم من راتبك بلا سبب، ويسكنك في سكن لا يمت للآدمية بصلة. أما هنا في مصر، فالوضع مختلف تمامًا، الكفالة ليست مجرد علاقة عمل ولا حالة فردية، بل رؤية قومية، مشروع وطني متكامل، له قيادة حكيمة وشاملة، على رأسها السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، الكفيل الأعلى لمواطنيه، بالعصا أحيانًا، وبالجزرة في مناسبات أقل.

الرئيس بنفسه قالها مرارًا في خطاباته المتكررة: “إحنا مش هنسيب الناس تضيع ونقعد نتفرج عليهم” جملة تبدو في ظاهرها وعدًا رئاسيًا حنونًا، لكنها في مضمونها إعلان رسمي عن نظام كفالة متكامل، يضمن لكل مواطن مصري حياة كريمة من وجهة نظر الرئيس طبعًا، حتى لو من غير تأمين صحي، ومن غير عقد عمل، ومن غير مرتب ثابت، المهم أن تعيش، وتتحمل، وتكون مواطنًا صالحًا، والأهم من ذلك كله أن يكون الرئيس راضيًا عنك، حتى لا تزعل.

مواطن الجمهورية الجديدة ليس بحاجة إلى فيزا، ولا إقامة، ولا كفيل سعودي أو كويتي. كفيله هنا، في القاهرة، في قلب العاصمة الإدارية، تحت إشراف جهات عليا، مناقصات الجيش، مشروعات الوزارات، القطاع الخاص الذي يعمل بنظام الحقوق المرنة، والشركات الناشئة التي تمنحك راتبًا رمزيًا ومواعيد عمل تعسفية. كل ذلك تحت علم مصر وداخل إطار جمهورية جديدة، شعارها الرئيسي: “خليك هنا تحت كفالتنا وحاسب على نفسك”.

والفرق الحقيقي بين كفالة الخليج وكفالتنا هنا هو البعد الإنساني العاطفي. هناك، الكفيل قد يتركك في الشارع إذا مرضت، أو يرحلك على أول طائرة دون إنذار. أما هنا، ففي أسوأ الظروف، ستجد نفسك في مستشفى حكومي. صحيح أن جودة الخدمة تخضع لقوانين الحظ والقدر، لكن المؤكد أنك لن تبيت في الشارع، بل ستبيت في الطوارئ.

هناك، الكفيل قد يخصم من راتبك دون أن يشرح لك السبب. أما هنا، فالدولة تشرح لك بوضوح: “الظروف صعبة، والإصلاح الاقتصادي لازم الكل يشارك فيه، ودي مساهمتك الوطنية من غير ما نطلب منك موافقة مكتوبة”.

تحت كفالة السيد الرئيس، أنت لست مجرد عامل، أنت مشروع قومي متحرك، مواطن منتج، متحمل، شاكر، صابر، مبتسم وقت الغلاء، وساكت وقت الخصم، وراضٍ وقت ارتفاع البنزين، ومقتنع أن كل خطوة تقربك من ربنا، لأن كل أزمة تقوي إيمانك، وكل ضغط يذكرك أن الدنيا فانية، وأن الآخرة خير وأبقى.

في النهاية، ليس مهمًا أن تكون موظفًا أو مهاجرًا، المهم أن تعرف مكانك، وتكون مدركًا تمامًا لشعار أن السيسي، ليس فقط رئيسك، بل هو كفيلك.

الكفيل الأجنبي عملة صعبة.. الكفيل الوطني عملة نادرة

في بلاد الخليج، الكفيل الأجنبي هو سيد المرحلة: يطبع لك إقامة، ويقصّ جناحاتك يسحلك في دوامات الروتين، ويعاملك كأنك على الهامش، هو “عملة صعبة” بمعناها الحرفي: بتشتغل معاه عشان العملة، بتتحمّل غُلبه عشان الفلوس، وبتستحمل الإهانات عشان الريال أو الدينار بس في الآخر هو غريب، غريب في اللغة، غريب في الطبع.

لكن في مصر، الوضع مختلف هنا الكفيل مش غريب، ده من أهلك نفس لغتك وعلشان كده ما ينفعش نقارنه بأي كفيل أجنبي، الكفيل الوطني مش بس “عملة نادرة”، ده عملة مش موجودة أصلاً في السوق، محجوزة للحالات الخاصة، مخصصة للقلوب الصبورة، وللي بيعرفوا يشتغلوا بدون أسئلة، بيشتغلوا في حب مصر وعشان مصر. 

وهنا الفرق بيبان.
الكفيل الأجنبي بيديك ورقك وحقوقك بس على البارد.
الكفيل الوطني بيخطف منك كل حقوقك بس بالحب

كمان عندك ميزة تانية.. في بلدك مش بس بتشتغل لأ، بتشارك في بناء الوطن، بتشتغل في الشمس من غير تأمين؟ عادي، علشان نخلص بناء الجمهورية الجديدة، مهما تعبت مش مشكلة كلوا يهون عشان بلدك تعيش، فلو الكفيل الخليجي بيديك سمكة، الكفيل الوطني بيديك الطعم وبيعلمك كيف تصطاد، صحيح أنه سيأخذ السمك كله منك بعد ما تصطاده لكن ع الأقل اتعلمت حاجة واصطاد ياعم وقت ما تحب.. شوفت بقى؟

الإعلام المصري.. صوت الكفيل المحلي

لم يكن الإعلام المصري يومًا بعيدًا عن نبض المواطن ولا عن رسائل الدولة التي تُبث من القلب إلى الأذن ثم تُزرع في الوعي كأنها حقائق مقدسة، ومع تصاعد الجدل حول كفالة المصريين في الخارج، وسوء المعاملة من الكفيل الخليجي، تحرّك الإعلام الوطني بكل ثقله ليؤكد: كفالتك في مصر واجب وطني.

أحمد موسى خرج في برنامجه وهو يكاد يضرب الطاولة بيده قائلاً: “اللي مش عاجبه شغل بلده يروح فين؟! دا أنت هنا بتشتغل وبتخدم وطنك! هناك بتشتغل وبتخدم كفيل غريب، عـــــيب!”

أما نشأت الديهي فقال:”عايز تشتغل في الخليج وتتبهدل؟ طب ما تشتغل هنا وتتبهدل بردوا بس بكرامة!”
وأضاف في فقرة خاصة بعنوان “الوطن الكفيل الحقيقي”، وتابع “الكفالة في مصر مش عقد عمل دي علاقة روحية بين المواطن والدولة زي الأم وابنها حتى لو ضربته، فده عشان مصلحته!”

إبراهيم عيسى قرر يدخل الموضوع من زاوية فلسفية وجودية وقال: “الكفيل الخليجي هو نموذج رجعي سلعي بيعتمد على التسليع الكامل للإنسان بينما الكفيل المصري، اللي هو الدولة، هو كفيل إنساني كفيلك مش بيستخدمك، كفيلك بيصنعك!”

أما عمرو أديب، فكالعادة اختار الصمت الاستراتيجي وامتنع عن التعليق على القضية برمتها، نظرًا لحساسية موقفه الحالي وكونه أصبح مواطنًا سعوديًا رسميًا بحكم التجنيس، مما يضعه تلقائيًا في خانة الكفلاء وليس المكفولين.

المقربون من عمرو أديب أكدوا أنه يفضّل عدم الخوض في نقاشات قد تُفهم على نحو خاطئ في الرياض، خصوصًا بعد أن أصبح يرتدي عباءة الإعلام الخليجي بكل تفاصيلها من نبرة الصوت وحتى زاوية التصفيق. البعض يقول إنه حتى أثناء تحضير حلقاته، صار يستخدم كلمات مثل “مكرمة”، و”توجيهات سامية”، و”رؤية مستقبلية”، و”مولاي سمو ولي العهد”، بشكل تلقائي دون الحاجة لمراجعة النص.

الطريف أن عمرو، الذي كان قبل سنوات من أشد المنتقدين لنظام الكفيل، أصبح اليوم واحدًا من رموزه. وربما لو عاد به الزمن للوراء، لكان كتب مقالًا بعنوان: “فوائد الكفالة… وتأثيرها الإيجابي على الانتماء الوظيفي”، وفي كل الأحوال، يظل عمرو أديب نموذجًا حيًا لتحولات وتطور الإعلامي المصري من مرحلة الاعتراض إلى مرحلة الامتثال ثم مرحلة التجنيس وأخيرا مرحلة الكفالة وخير دليل على ذلك الأستاذ عمرو كفيل.. أديب سابقا ههههه.