العين فلقت سنترال رمسيس – بقلم رئيس التحرير

لم يكن ما حدث في سنترال رمسيس مجرّد حريق عابر، أو مجرد خلل في دائرة كهرباء أو كابل مسنّ قرر أن يعتزل الحياة فجأة. ما حدث، ببساطة وبلا لف ولا دوران، هو نتيجة حتمية لما يمكن تسميته “الحسد الوطني”. نعم، حضراتكم قرأتموها صح: حسد. لأننا حين ننجح، نتحسد. وحين تنتظم الشبكة، تتآمر الطاقات السلبية على أسلاك النحاس.
وحين تقرر الدولة أن تتحول إلى “ديجيتال”، يتحوّل الهواء فجأة إلى نار. أقولها بوضوح وأجري على الله.. العين فلقت سنترال رمسيس. حرفيًا. منذ أسابيع قليلة فقط، كنا نتابع بفخر كيف تحقق الدولة إنجازاتها الرقمية: مراكز البيانات، والشبكات الذكية، والمبادرات الوطنية للتحوّل الرقمي، والتوسع في خدمات الإنترنت، وتحسين البنية التحتية، والربط بين المحافظات بكابلات ألياف ضوئية من النوع اللي لما تمسكه تحس إنك ماسك شعرة من لحية التكنولوجيا نفسها. بلد كانت بتتحرك لقدّام. مشيّة واثقة، متزنة، مفيهاش زلّة كعب. ووسط ده كله، فجأة، سنترال رمسيس يولع؟ هل دا طبيعي بذمة حضراتكم؟ دا مش خلل. دا حسد.
وأقولها بصدق: كان الله في عون السيد الرئيس الدكر بتاعنا، ذلك لأنه يتعب ويشتغل ويشيل فوق دماغه همّ بلاد بـ 100 مليون بني آدم، وكل ما يعمل مشروع أو يربط كابل، تيجي عين بني آدم تِفلق العِرق من نصه. هو أنا لو ماشي في الشارع ولبست بدلة جديدة وولعت، مش هاشك إن في حد بصلي؟ أمال لما السنترال يولع؟ دا مش برج حمام، دا مؤسسة سيادية اتربت في أحضان الدولة من أيام عبد الناصر. المصيبة الأكبر مش في الحريق، المصيبة في توقيته. الناس كانت بدأت تحس إن الإنترنت بقى ثابت شوية. الكلمة بتتبعت من موبايل لموبايل في أقل من ثانية. الملفات بترفع عالجوجل درايف من غير ما حد يروح يعمل شاي ويستناها. شوف إزاي؟ دا نفسه في حد ذاته بيخلي العيون تتقلب من جوّا. في واحد من الموظفين عندي عينه مدورة قالي من كام يوم بالحرف: “النت بقى سريع أوي… دي مش من الدولة، دي من بركة ربنا”. ودا بالضبط هو الخطر. لما الإنجاز يتحوّل لمعجزة، والمواطن يفتكر إن مافيش بشر تعبوا عشان دا يحصل، يبقى أول سلك هيتحرق مش في سنترال رمسيس، دا في دماغنا.
سنترال رمسيس.. قال إهمال قال
وأنا عارف إن في شوية بتوع “سوشيال ميديا” طالعين يعايرونا، يقولوا إن دا إهمال، وإن الأسلاك قديمة، وإن السيستم مش محدث، وإن الحريق دا نتيجة فشل إداري. بس أحب أقول لهم من هنا، من مقامي كرئيس تحرير، وبكل هدوء: يا جماعة اسكتوا شوية.. تعرفوا؟ هو لازم كل ما تحصل حاجة نرميها على الإهمال؟ هي النار عندكم ما بتحبّش غير الفشل؟ ما يمكن النار دي بتحب النجاح ومش قادرة تستحمله. يا سادة، في حكمة شعبية بتقول “الحلو ما يكملش”، أظن أن الجميع يعلمها حتى لا يتفزلك أحدهم ويقول أننا نبرر أو نطبل للسيد الرئيس، ولأن الحكومة عملت حاجات حلوة كتير في قطاع الاتصالات. ولسه الأسبوع اللي فات كنا بنقرأ عن مبادرات جديدة للذكاء الاصطناعي، وعن مدن ذكية، وعن تحويل مصر إلى مركز إقليمي للبيانات. مش معقول يعني نحقق كل دا، ونستبعد إننا نتحسد. ومش بعيد كمان يكون اللي ولّع سنترال رمسيس مش بني آدم خالص، ممكن يكون فيروس حسد رقمي، جاي من سيلفي مواطن اتصور قدام سنترال رمسيس وقال: “هو دا اللي بيوصل النت؟ دا شكله جامد أوي !”. ولأن المايل لم يقل “ما شاء الله” فطبيعي نتحسد والشيطان يكمن في التفاصيل، لاسيما لو كان قالها وبيعض في الكلام ولا قال “اللهم بارك” حتى، فالعين فلقت سنترال رمسيس

سنترال رمسيس.. خلايا نائمة مشتعلة
وعلى سيرة الحسد، لا يمكن أيضا أن نستبعد احتمال تورط عناصر خارجية في إشعال الحريق، خصوصًا وإن مصر لسه من كام أسبوع أعلنت بكل فخر إطلاق خدمات الجيل السادس رسميًا كأول دولة في العالم، ودي مش خطوة بسيطة، دي قفزة رقمية بتوجع اللي مش عايزنا نتطور. لأن مصر مش أي بلد، دي دولة محورية، ونقطة ارتكاز في الأمن القومي الرقمي الإقليمي، وهدف مشروع لكل اللي عندهم أجندات تخريبية أو نفسهم يرجعونا نكتب جواب على ورق ونبعت فاكس. وده اللي بيخلي كل جهاز مخابرات في العالم، من السي آي إيه للموساد حاطط عينه على سنترالاتنا. ما هو مش طبيعي أول ما نعلن عن الجيل السادس، فجأة يولّع أقدم سنترال في قلب القاهرة؟! كل ما نحدث كابل، الشبكة تفصل. كل ما نركب راوتر جديد، يظهر ماس قديم. كل ما نعلن عن “مصر الرقمية”، نلاقي المبنى اللي ورا الإعلان بيشتعل! دي مش صدفة، دي حملة مضادة يا حضرات. وأنا شخصيًا وأرجو أن يفهم كلامي بشكل صحيح، شايف إن لازم يتعمل تحقيق دولي شفاف، تشارك فيه كل الجهات السيادية بلا استثناء، ونفتح ملف “حرائق البنية التحتية” اللي بقت بتزيد بانتظام مع كل طفرة نعملها، وكأن أي تطوير لازم ييجي قبله نار تبارك المشوار. يمكن في خلية نايمة جوه شركة المياه بتصب جاز بدل المية، أو موظف في الطابق التاني عنده ميول تخريبية بيخزن ولاعة فحم. ويمكن حتى عامل البوفيه كان محسود، فطلع الحسد في الحيطان، أو السنترال نفسه حَسّ إنه مش على خريطة الجمهورية الجديدة، فقرر يولّع عشان يشد الانتباه، يصرخ، يطلب لنفسه مساحة في البروباجندا الرسمية، الله أعلم دعونا لا نستبق الحاجات.
عزيزي خليك حقاني
وعزيزي القارئ، دعنا نعود إلى موضوع الحسد وخليك حقاني وخليني أسألك: محصلش معاك قبل كدا إنك تبقى جايب موبايل جديد ولسه طالع من العلبة وفجأة يقع منك ويتكسر؟ أو جايب جزمة جديدة وتلبسها لأول مرة تقوم تتقطع؟ أو داخلك فرحة كبيرة، وفجأة كأن فيه حاجة خبطتك في نص قلبك؟ أيوه، هو دا بالضبط اللي حصل للسنترال. فرحة كبيرة كانت جاية، والله ما كملتش. ما تفكروش بسطحية، الدولة مش ساذجة، والناس اللي بتشتغل مش بتلعب. الحريق دا مش حاجة عابرة. دا ممكن يكون رسالة، أو طاقة راجعة، أو انعكاس لطاقة الكوكب في لحظة شاذة. ومش بعيد يكون كمان تمهيد لمرحلة جديدة من التطوير. يمكن وزارة الاتصالات كانت بتخطط تهد السنترال وتبني مكانه “سنترال ذكي” فيه ميتافيرس وشبكة 7G، والنار سبقت الجدول الزمني بس. في النهاية، اللي لازم نفهمه إن دي بلد محسودة. محسودة على استقرارها، على شبكتها، على قيادتها، على كابلاتها، على سخاناتها، على كل حاجة فيها حتى لو بتفصل، وحتى لو بنشحن مرتين في اليوم. فبلاش نلوم، وبلاش نزن، وبلاش نحط الإهمال شماعة كل مرة. لأن المرة دي، الشماعة اتحرقت هي كمان. اللهم احفظ مصر من الحسد والنار، ومن عيون كل من شافها ولا قال “اللهم صلِّ عالنبي”، ومن النت اللي بيفصل وقت البث المباشر، ومن القراء اللي فاكرين إن كل حاجة بالدليل والمستند. ساعات الحكاية بتكون أعمق من كده… وساعات بتكون عين، آه والله العظيم.