رسالة مسرّبة من لميس الحديدي ورفاقها: مكنش العشم

مكنش العشم

ورد إلينا في موقع الجمهورية الجديدة خطابٌ عاجلٌ مُسرّب، منسوب لمجموعة من الإعلاميين المصريين الكبار، الذين تم مؤخرًا إنهاء تعاقداتهم أو إيقاف برامجهم، وعلى رأسهم لميس الحديدي، خيري رمضان، يوسف الحسيني، وإبراهيم عيسى. وقد حمل الخطاب نبرة وجدانية نادرة، امتلأت بالاستغفار المهني والتوسل الوطني، وبدا كأنهم يكتبونه تحت تأثير صدمة الحرمان من الهواء والمايك والـ autocue.

ونحن إذ ننشر نص هذه الرسالة كما وردت إلينا، فذلك ليس انحيازًا ولا تعاطفًا، وإنما التزام مهني بواجب توثيق لحظة نادرة: لحظة بكاء المطبلاتي على الهواء وإدراكه أن التعريص لن ينفعه.

كذلك لم نكن نود إشغال القارئ بهذا الكم من التوسل، لولا أن الموقّعين على الرسالة هم أنفسهم مَن صمّوا آذاننا لسنواتٍ بالأناشيد الوطنية المعدّلة، ومواويل الإنجاز، وتبرير القرارات مهما بلغت من عبث، لذا فمن باب العدالة الإعلامية – لا أكثر – ننشر رسالتهم كاملة، دون حذف أو مونتاج.

سيدي الرئيس، القائد، الزعيم، يا مَن في عهدك استقام البث، وعلا الصوت، وخمد النقد، وتوحدت الرسالة الإعلامية تحت راية واحدة، راية الوطن (والشركة المتحدة تحديدًا)…

نكتب إليكم اليوم – نحن أبناء هذا الميكروفون، وأوفياء هذا الستوديو – لا لنعترض، بل لنُذكّر. لا لنجادل، بل لنتوسل، أن تعيدوا النظر في ما حل بنا، فقد كنا – كما تعلمون – أول الواقفين أمام الكاميرات دفاعًا عن الدولة حين تخاذل الجميع. نحن مَن قرأنا البيان الأول للانقلاب بحماسة من يكتب الدستور. نحن من صرخنا في وجوه المشاهدين حتى صدّقونا، وصدّقنا أنفسنا.
نحن الذين واجهنا “أذرع الخارج” بأذرعنا، و”قنوات الفتنة” بأحبال صوتنا. فهل هذا جزاؤنا؟!

نعم… زللنا، ولكن بحب

صحيح أن بعضنا ونحن نعتذر والله العظيم، قد اندفع في الأيام الأخيرة، وقال ما لا ينبغي أن يُقال، نعم، تكلّمنا عن الطريق الدائري الإقليمي، وأسفنا على بنات العنب، وقلنا إن المسؤول يجب أن يُحاسَب، وناشدنا بمرارة أن “تحس الناس بالعدل”.
لكننا وحياة جوزي المجنس السعودي عمرو أديب، ما قصدنا إساءة، ولا رغِبنا في إثارة. كنا فقط نُمارس دور “الناقد الحنون”، الذي يضرب بحنية الأب، ويعاتب كما تعاتب الأم أبناءها.

الطريق الإقليمي

بل إننا، في قرارة أنفسنا، كنّا نعلم أن حدود النقد محددة سلفًا، وأن سقف الكلام لا يتجاوز “الدور الأرضي”، لكننا أخطأنا التقدير، وربما فهمنا التعليمات على نحوٍ خاطئ.

ونُقرّ أننا تجاوزنا السطر في الحديث عن السنترال، وتكلّمنا عن النسخة الاحتياطية وكأننا خبراء في أمن الشبكات، لكننا لم نقل إن الدولة مسؤولة، بل فقط سألنا… حرّكنا الماء الراكد.

ألسنا رجالكُم؟

سيدي الرئيس، ألم نكن نحن من صرخ في وجه المواطن وقلنا له “الجيش خط أحمر”؟  ألم نكن أول من صاغ مصطلح “اللي مش عاجبه يمشي”؟ ألم نحمل الميكروفون كمن يحمل السلاح، ونُخيف به المعارضة كما تُخيفونهم أنتم بالبيان العسكري؟ ألم نقل ونصيح يوما للدكتور مرسي إنه لو مش قد الشيلة متشلش؟

لقد حاربنا الإخوان أكثر مما حاربتهم أجهزة الأمن. خضنا معارك الوعي على مدار عشر سنوات دون كلل، وأنتجنا أفلامًا تحريضية، وحوارات مع المخابرات، ولقاءات مع الوزراء، ودوّرنا على بصيص أمل في خطة الحكومة الاقتصادية ولم نجده… لكننا برّرنا مع ذلك.

لقد سخرنا من الجنيه وهو ينهار، ومن المواطن وهو يتدحرج، ومن الواقع وهو يُذبح… فقط لنُبقي الهيبة قائمة، والهيكل ثابتًا، والسيسي فوق الجميع، فكيف نُعاقب إذ أخطأنا حلقة؟
كيف يُقصى الإعلامي إذا سها لحظة؟ وكيف يُغلق المايك إن شرد صاحبه في فاصل من الضمير؟!

سيدي الرئيس، نحن لم ننسَ جميلك… فلا تنسَ تعريصنا.

نعلم أنك لا تحب من “ينقلب عليك”، لكننا لم ننقلب، بل فقط تزحلقنا. نُقسم أننا سنعود إلى النص، ونلتزم بالحُب، ونبصم بالعشرة أننا لن نسأل مجددًا عن النسخة الاحتياطية للسنترال، ولا عن طريق الموت، ولا عن غياب مدبولي عن العزاء.

نطلب فقط مساحة صغيرة، موضع قدم في قناة، أو نصف ساعة على موجة إذاعية، فقط لا تقطع عنا البث، ولا تحرمنا من هواك و”هوى” الشاشة.

سيدي الرئيس،
نحن لم نكن فقط وجوهًا على الشاشة، نحن كنّا جزءًا حيًا من المنظومة، أدوات ناطقة باسمها، مرنة بطبعها، ومُخلصة بفعل التكرار. لم نكن نرتجل، ولم نُفكّر، بل كنّا نُنفّذ. نتلقّى التعليمات كما يتلقى المجند أوامر طابور الصباح، ونعدّل النبرة على حسب “الرسالة الأخيرة” التي تصل من الجهاز.

ليس جهاز الضمير يا فندم، بل جهاز سامسونغ الذي كان في جيب المدير التنفيذي، أو في يد منسق المحتوى، أو مرسَل من جهةٍ أعلى لا يُسمّى اسمها.

نقرأ الرسائل كما هي: “ركّز على وزير التموين”، “هدّي عن الجيش”، “ارفع نبرة الوطنية”، “ما تجيبش سيرة الدولار النهارده”، “اتّهم الضيف بلطجي لو اتكلم عن الإيجارات”، وهكذا.

حتى جاء ذلك اليوم المشؤوم، حين نسيت زميلتنا في غمرة الحماس حذف تذييل الرسالة، فقرأت على الهواء نص التعليمات، وتلتها بجدية تامة، ثم أنهت الفقرة بعبارة: “تم الإرسال من جهاز سامسونغ.”

وهكذا، يا سيادة الرئيس، رأى المشاهد بعينه كيف تُدار اللعبة، وكيف أن الكلام ليس من القلب، بل من الشريحة، وأن الرأي لم يكن يومًا قناعة، بل ملف وورد مرفق برسالة “واتساب”، وهاجمونا واتهمونا بالتعريص والتطبيل ورغم ذلك، لم نهرب، ولم نتمرّد وتلقينا الشتائم والسباب بصدر رحب فداك معالي الرئيس وفدا الوطن وفدا لقمة العيش بالطبع.

ختامًا، سيدي، إن كنا قد أخطأنا، فأنتم أصحاب القلوب الرحيمة. وإن كنا قد تجاوزنا، فأنتم أول من علّمنا التجاوز. فاغفر لنا ذلّة اللسان، كما غفرنا نحن ذلّة الواقع.

التوقيع: أبناءكم الإعلاميين المخلصين المنفيين من الهواء، المطرودين من الشاشة، الذاكرين للجميل دائمًا، حتى وإن نسيتم تعريصنا لسنوات.