حر السعودية + اقتصاد لبنان + شمامين كولومبيا = مصر جميلة

مصر

في العادة، تُعرف الدول بهويّة واضحة، فرنسا مثلًا بلد النور، اليابان بلد التكنولوجيا، سويسرا بلد الحياد والبنوك، أما نحن، فاختارت لنا الأقدار هوية أكثر ثراءً وتعقيدًا: على كل لون يا باتيستا

ففي الجمهورية الجديدة في مصر، لا نحتاج إلى السفر لنشعر بحرّ الخليج، ولا إلى مغادرة الحي لنعيش سعر صرف بيروت، ولا إلى الأفلام الوثائقية لنتعرف على شمامين كولومبيا، ولا حتى إلى حجز تذكرة لحضور مباراة لمنتخب جيبوتي، كل ذلك وأكثر أصبح جزءًا من الواقع اليومي، بنكهة مصرية أصيلة.

هنا، لا تُحرم من شيء، كل التجارب العالمية متوفرة: طوابير الخبز، وانهيار العملة، والمخدرات المنتشرة، والرياضة الهابطة، وحتى الأمل المؤجل،  بلد فيها كل حاجة موجود ومفيش فايدة. 

ولأن الإنصاف واجب، والاعتراف بثراء التجربة الوطنية فرض، نستعرض معًا أبرز النكهات العالمية التي امتزجت في وصفة الجمهورية الجديدة، لتقدّم للمواطن طَبقًا متكاملاً من الهمّ المُعولم، بطابع مصري خالص.

ولأن الجمهورية الجديدة لا تقبل القوالب الجاهزة، فقد صنعت قالبًا خاصًا بها: مزيج من تجارب الآخرين، لكن مع لمسة محليّة تجعل الفشل يبدو مختلفًا، والإحباط أكثر أصالة، فنحن لا نقلّد أحدًا في الأزمات، نحن “نستوحي”، ونُضيف نكهة جديدة. 

والميزة الأهم في هذه الهوية الهجينة، أنها توفّر للمواطن تجربة دولية متكاملة دون تأشيرة أو باسبور، ما الذي يدفعك للسفر إلى الخارج لتجربة التضخم، بينما يمكنك أن تراه ينمو في محفظتك؟ لماذا تتابع أخبار الكساد في أمريكا اللاتينية، وأنت لديك نسختك المحلّية؟ نحن ببساطة “نتبنّى الهمّ العالمي”، ونوفّر عليك تكاليف الشحن.

صيف بنكهة سعودية.. من غير فلوسها

أشعة الشمس لا تختلف كثيرًا بين السعودية وأسوان، لكن الفارق الجوهري أن حرارة المملكة مقرونة بعائد نفطي، أما نحن في مصر فقد اكتفينا من التجربة بدرجة الحرارة فقط، مع الدعاء بأن يرزقنا الله البترول كما رزق آل سلمان وآل سعود. 

في الجمهورية الجديدة، لا داعي لمكيفات الخليج ولا لمشروعات الطاقة المتجددة، فـ مصر تراهن على جلد المواطن وولائه الوطني في التعامل مع حرارة 45 مئوية، وكأن العرق شكل من أشكال الانتماء.

أما مبادرة “أسبوع بلا كهرباء” التي يعيشها البعض تلقائيًا، فهي ليست انقطاعًا في التيار، بل فرصة للتأمل في معنى الصبر، وتمرين عملي على التعايش مع الطبيعة.

ورغم اختفاء الظل وذوبان شبكات الكهرباء في وضح النهار، يُطلب من المواطن أن “يشكر النعمة”، لأن الحرارة – برغم قسوتها – أفضل من برودة المشاعر الوطنية، فالمكيفات تُضعف الحماسة الثورية، والمراوح تشتت الانتباه عن التحديات الكبرى، بينما العرق يوحّد الجبهة الداخلية تحت راية المعاناة المشتركة.

هنا لا يُقاس نجاح الدولة بعدد محطات الطاقة الشمسية، بل بعدد المواطنين الذين يستطيعون النوم في عز الظهر، ففي وطن لا يخشى الشمس، المواطن نفسه هو وسيلة التبريد، وهو جهاز التكييف، وهو لوحة التحكّم التي تتفاعل مع الحر والضغط والإضاءة بصبر يليق بجمهورية لا تضيء البيوت، لكنها تُنير الضمائر.

سعر صرف على طريقة بيروت

في بيروت، السعر الرسمي شيء، وسعر السوق شيء آخر، العملة هناك تعيش في عالم موازٍ منذ سنوات، ونحن في مصر قررنا مؤخرًا أن نلتحق بتلك المدرسة.

أصبح الدولار مثل الشبح: تعرف أنه موجود، لكنك لا تراه في البنوك، وسعره يتغير على مدار اليوم مثل حالة الطقس، أو مزاج السوق، أو تويتة غامضة من صندوق النقد.

الفرق الوحيد أن اللبناني حين يستفيق على انهيار الليرة، يجد على الأقل ساندويتش “منقوشة” وسقفًا من الحرية يسب فيه الطبقة السياسية كلها بأريحية، أما المواطن المصري، فيكتفي بساندويتش أقل، وصوت داخلي يهمس له: “الحمد لله إن احنا لاقين رغيف العيش”.

الاقتصاد الموازي بات هو الأصل، والدولار في السوق السوداء أصبح أقرب للذهب الأبيض، أما تصريحات المسؤولين فهي أقرب إلى الفوازير الرمضانية: كل جملة تحتاج لتفسير، وكل وعد يحتاج لمعجزة.

شمامين كولومبيا على الطريقة المصرية

في كولومبيا، المخدرات جزء من الاقتصاد الرسمي، وفي مصر تحوّلت إلى مكوّن اجتماعي شبه علني، لا تكاد تمر في شارع شعبي إلا وتشم رائحة “الاسترخاء”، ويتحول الميكروباص إلى مساحة مفتوحة لتبادل “الخبرات”.

واللافت أن الأمن لم يعد يطارد المتعاطين كما في الماضي،  يبدو أن هناك قبولًا ضمنيًا بوجود “نسبة تشميس”، طالما أن المزاج العام تحت السيطرة، والتهديد الحقيقي أصبح من شخص يشكك في سياسة الحكومة، لا شخص يشرب سيجارة ملفوفة.

الإعلام كذلك يلعب دورًا توعويًا من نوع خاص: يناقش الظاهرة بقلق صادق، ثم يفاجئك بإعلان عن فيلم أكشن فيه البطل “بيبيع ويشرب ويكسب”. ومع الوقت، تصبح المخدرات جزءًا من الموروث البصري، مثلها مثل الكشري والنيل والبطالة والشحاته والخربات وهكذا وهكذا.

وبهذا الشكل تدخل الجمهورية الجديدة مرحلة “التعايش مع الممنوع”، وهي مرحلة متقدمة من الحداثة الاجتماعية، تنبع من قناعة بأن الضغط يولد “شمّامًا”، لا شخص ثوري

 رياضة على الطريقة الجيبوتية

جيبوتي دولة صغيرة، تملك منتخبًا يلعب بلا طموح، ومع ذلك لا يغيب عن التصفيات، هذا النموذج يبدو أنه ألهم الرياضة والرياضيين في مصر، التي قررت أن تكتفي بالمشاركة، وأن “التمثيل المشرف” غاية لا وسيلة.

لم تعد هناك أحلام بكأس أفريقيا، ولا حتى التأهل لكأس العالم،  الإنجاز الآن هو الحفاظ على مركز متقدم في “التريند”، أو تصريح قوي من مدرب مهزوم يقول: “اللاعبين رجالة، بس الحظ ماكانش معانا”.

الأندية تتحارب على البث والإعلانات، وليس على الكؤوس، والملاعب مليئة، لكن بالتصريحات النارية لا الجماهير، أما المشجع، فقد قرر أن يتابع الدوريات الأوروبية من باب “الواقعية العاطفية”، فلا أحد يحب أن يُكسَر قلبه كل أسبوع.

والأمل دائمًا معقود على الناشئين، الذين غالبًا لا يلعبون، أو يُستَثمرون في بورصة الاحتياط، وهكذا تستمر الرياضة، على طريقة جيبوتي: حضور دائم، وإنجاز غائب.

عندنا كل الحاجات.. بس مفيش حاجة نافعة

لو أردت أن ترى كل تجارب العالم مجتمعة في مكان واحد، تعال إلى مصر، ستجد أزمة خبز على طريقة فنزويلا، وطوابير بنزين على طريقة سوريا، وسوق سوداء على طريقة زيمبابوي، وتطبيقات حكومية ببطء الإنترنت في الكونغو.

مصر تحوّلت إلى كتالوج عالمي للمعاناة، مع لمسة كوميدية لا تخطئها عين،  ففي اليوم الواحد، يمكنك أن تدفع ضريبة جديدة، وتقرأ عن مشروع قومي خيالي، وتسمع تصريحًا مطمئنًا من مسؤول، ثم تكتشف أن الحكومة باعت مبنى أثري لشركة خاصة “عشان الاستثمار”.

ومع ذلك، فالمواطن لا يفقد حسّه الفكاهي. يشتكي وهو يضحك، ويدفع وهو يردد: “إحنا أحسن من غيرنا”،  وتلك هي العبقرية المصرية الخالصة: أن تعيش في دولة متعددة الجنسيات من الأزمات، وتظل مصرًّا على البقاء في نفس العنوان.